الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

ماذا استفدنا من معركة الدردنيل


معركة جاليبولي كما تسميها بريطانيا أو حملة الدردنيل كما تطلق عليها فرنسا أو معركة شناق قلعة التي تفتخر بها تركيا عبارة عن دروس وعبر كثيرة في السياسة والفكر العسكري والأطماع الإستعمارية وصراع الحضارات. فهي المعركة التي هندسها ونستون تشيرتشل عام 1915م لدعم روسيا خلال الحرب العالمية الأولى ضد الألمان عن طريق مضيق الدردنيل للوصول الى بحر مرمرة ومنه مضيق البوسفور ليصل الى البحر الأسود. 

بدأ الحلفاء غزوهم البحري على تركيا في فبراير 1915م وكانت قواهم البحرية تضم سفن بريطانية وفرنسية وفي ابريل 1915م أتبعوها بغزو بري ضم قوات بريطانية وفرنسية وفرق عسكرية من استراليا ونيوزيلندا. استمر التحالف في تلقي الهزائم من القوات التركية والقوات الموالية لها في ولاياتها مثل حلب ودمشق وبغداد والقدس ونابلس وغيرها ، حتى أصدرت الأوامر بالانسحاب والاخلاء الى قوات الحلفاء الذين تكبدوا خسائر في الأرواح وصلت الى 252 الف بين مصاب وقتيل. كما تكبدت القوات التركية وولاياتها 250 الف مصاب وقتيل.(1)

والباحث في المصادر الرئيسية لهذه الحرب سيجد اختلافات تدوين متحيزة وسرد وقائع مختلف فالبريطانيين ركزوا على تبرير هزائمهم وأدخلوا نجاحات كثيرة رغم سحقهم وفقدانهم أهم غواصاتهم وسفنهم الحربية. أما الأستراليين والنيوزيلنديين فكان تركيزهم على البأس والشجاعة في النزال البري أما الأتراك فركزوا على التضحيات الكبيرة والبطولات الفردية. ومن تداول الموضوع من غير المشاركين بالحرب فكتب عن مؤامرات لإنشاء الدولة التركية العلمانية. لذا حاولنا في هذه الصفحات تبين الحقائق فقط والخروج بدروس نستفيد منها.  

علاقة تركيا بألمانيا في الحرب العالمية الأولى
ساد تكتم على علاقة تركيا بألمانيا في الحرب العالمية الأولى ولكن الدلائل كانت تشير الى أن تركيا كانت تلعب دور سياسي لا يقحمها مباشرة في صراعات مدمرة. ورغم ذلك كانت تميل أكثر الى ألمانيا التي سلمتها القوقاز الروسية في شمال غرب ايران. وفي نوفمبر 1914م اعلنت روسيا الحرب على تركيا ، ومن طرفها وقعت تركيا اتفاق سري بالتعاون مع المانيا ضد روسيا وهو اتفاق لا يرغمها على دخول مناوشات حربية. (2)

تفاصيل المعارك
كان هدف تشيرتشل مهاجمة القسطنطينية عن طريق البحر (أطلق على القسطنطينية إسم اسطنبول عام 1923م بعد تشكيل جمهورية تركيا الحديثة). وتعتبر القسطنطينية عاصمة امبراطوريات متعددة كالرومانية والبيزنطينية واللاتينية والعثمانية. كانت الخطة بسيطة وهي دك القلاع على الاراضي التركية بمحاذاة شريط الدردنيل واضعافها وثم التقدم الى القسطنطينية. وفي 19 فبراير 1915م بدأ الاسطول البريطاني-الفرنسي مهاجمة ودك القلاع التركية فلم تتحرك القوات التركية للرد وأيقن الحلفاء أن الأمر أصبح في غاية البساطة وأن الامبراطورية العثمانية في غاية ضعفها. عندها تحركت السفن ودخلت فم مضيق الدردنيل وبدأ 250 مدفع ثقيل يعمل في تدمير القلاع التركية ولم يتمكن الأتراك في الرد لأن مدى مدافعهم كان أقصر. وما أن توغلت السفن البريطانية والفرنسية أكثر في مضيق الدردنيل فقد دخلت ضمن نيران المدفعية التركية والألغام البحرية التي فاجأتها وأغرقت ثلاثة سفن وأعطبت مثلها وانسحبت السفن والمدمرات المتبقية بعد محاولات يائسة لإنتشال المصابين. كانت هزيمة نكراء إنتشرت أخبارها كالبرق في دول العالم.(3)

لم تتقبل بريطانيا العظمى هزيمتها بعد ان استدرجتها القوات العثمانية الى حتفها ، فقررت تعزيز هجومها البحري بهجوم بري للإستيلاء على التحصينات التركية وإسكات المدافع الثقيلة. كان الثقل الاستراتيجي ينصب على الجهد البري الذي يقوده القائد البريطاني هاميلتون ويضم نخبة من القوات الاسترالية والنيوزيلندية والفرنسية. وبدأ التحضير للجهد البري الذي استغرق أكثر من شهر وكانت مدة كافية للقوات التركية أن تفهم الموقف جيداً وتعزز دفاعاتها. 

خططت بريطانيا لإنزال فرقتها 29 على خمسة شواطئ في منطقة "كيب هيليز" في جنوب المضيق الغربي ومن ثم ستجتمع لتتحرك كقوة واحدة. وسيقتحم الاستراليون والنيوزيلنديون شاطئ "غاباتيبي" في الشمال ليعززوا القوة البريطانية. وسيحتل الفرنسيون "كوم كالي" على الأراضي الآسيوية من الدردنيل. 

بدأت محاولة الإنزال في 25 ابريل 1915م وكان العثمانيون لهم بالمرصاد يعاونهم في ذلك القائد الألماني ساندرز. واجهت القوات الغازية مقاومة شرسة تسببت في قتلى بالمئات وفشل الانزال. ورغم ارتفاع حصيلة الضحايا من قوات التحالف ، أمر هاملتون بهجوم جديد على "كريثيا" في 28 ابريل 1915م. دافع العثمانيون الأتراك عن وطنهم بكل ما اوتوا من قوة وصدوا قوات التحالف في نفس اليوم. وفي 6 مايو سحب هاملتون القوات الاسترالية والنيوزيلندية لتعزيز القوة البريطانية في هيليز ولكنه فشل وتكبدت قواته خسائر بشرية كبيرة. 

قام الأتراك في يوم 19 مايو 1915م بهجوم مباغت على القوات الاسترالية المتبقية قرب غاباتيبي ولكنها لم تنجح وتكبدت 3000 قتيل. وفي 4 يونيو أمر هاملتون الهجوم الثالث على كريثيا وكانت النتيجة مذبحة في ذلك اليوم منهم 9000 تركي و6500 من التحالف ولم يتمكن هاملتون من الاستيلاء الا على أمتار قليلة من الأرض. 

في 6 اغسطس 1915م قرر هاملتون تغيير خطته والهجوم على "سوفلا" قرب أنزاك وأيضاً باءت بالفشل. وفي اكتوبر تم تنحية الجنرال هاملتون بالقائد تشارلز مونرو. أوصى مونرو بالإخلاء بسبب قدوم الشتاء ودخول بلغاريا الحرب. وربما كان الإخلاء السري هو النجاح الذي يذكر للقوات المتحالفة. 

اختلفت الدراسات في اعداد من قتل في المعارك التي دارت على مدار ثمانية شهور ونصف ولكن من دراسات الأتراك وجدنا أن الضحايا بلغوا 250 ألفا منهم 100 الف قتيل. بينما كانت احصائيات قوات الحلفاء 182 ألف منهم 62 الف قتيل. كانت معركة دموية مؤلمة.  

دروس نتعلم منها:
اختيار القادة البريطانيين على أساس التأثير وليس القدرة كان سبب الفشل الرئيسي الذي افتقر الى وضع  خطط استراتيجية مدروسة وبتأني. كما أدى ضعف قدرة القيادة الى التأخير في قرارات الهجوم وسرعة الحركة. وساهم افراط القادة بالثقة بالنفس والشعور بالعظمة الى الاقتناع من أن الخصم أضعف من أن يستطيع المقاومة. تسبب كل ذلك في اختيار طبيعة وعرة لإقتحامها وتم انزال القوات المتحالفة في وسط شاطئ مفتوح وليس على الموانئ. لذا كان من المستحيل احتلال مناطق مرتفعة وعرة ومحصنة بقوات بشرية تكاد أن تتساوى في القوة والامكانيات. وساهم ضعف المعلومات الاستخباراتية وغياب الخرائط الدقيقة الى انزال خاطئ. يقول هاملتون: معرفتي عن الدردنيل: عدم ، عن الاتراك:عدم ، عن القوة التي ستهاجمها قواتنا: عدم."

وبسبب الإستعجال لم تصل المؤونة اللازمة والمواد في الوقت المطلوب. اضف على ذلك تأثير الطقس وندرة المياه والغذاء والتضاريس الوعرة التي لم تخدم قوات التحالف.
أما بالنسبة للأتراك فقد استغلوا بالفعل ارتفاع الأرض المحيطة بالمضيق واستعدوا استعدادا جيدا للمعركة وكانت لديهم معرفة بالأرض. وما تميزوا به هو استخدامهم للألغام البحرية التي كان لها التأثير الأكبر في كسر معنويات التحالف منذ اليوم الأول. كان الحظ يحالف الأتراك فلديهم طائرات استطلاع ألمانية وخبرات قيادية من ألمانيا. كما حالفهم الحظ في تلكؤ قوات التحالف في سرعة اتخاذ قرار الهجوم. ورغم الأعداد البشرية الكبيرة التي فقدها الأتراك كانوا يقاتلون ببسالة ويذودون عن ارضهم. كما لعب مصطفى كمال دورا بارزا في هزيمة البريطانيين بمنع التحام قوات التحالف مع بعض وتفريقهم. لقب بأتاتورك لاحقا وكان قائدا لاحدى الفرق في المعركة. وقاد مصطفى كمال تأسيس الدولة التركية الحديثة لاحقاً. فبالنسبة للأتراك فهي المرة الأولى التي ينتصرون فيها على القوى العالمية. 

 فكر تشيرتشل
كان غزو تركيا من فكر ونستون تشيرتشل والذي كان وزيرا للبحرية البريطانية آنذاك. فقد كان يطمح في أن يهدي مدينة إسطنبول الى الروس. بعد ضعف الدولة العثمانية ، كانت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية يتفاهمون سراً على تقسيم المنطقة العربية ايضا فمعاهدة سايكس بيكو دليلا آخر على أطماعهم. ولكن في تركيا ، باءت مخططات تشيرتشل بالفشل فعزل من منصبه. وكإضافة مفيدة نذكرها هنا أن تشرتشل لمع نجمه ثانية في الحرب العالمية الثانية. فبعد فشله في معركة جاليبولي وعزله ، ذهب ليقاتل في الخطوط الاولى في فرنسا وعاد عام 1917م كوزير للذخيرة. كان اصدقاؤه السياسيون يسخرون منه عندما يتحدث ويقولون:" ماذا عن الدردنيل؟" وكان يرد عليهم أنه يفتخر بقراره في معركة الدردنيل والتي يمكن أن تكون قتلاها بالملايين. هؤلاء السياسيين أمثال تشرتشل يبيعون الكلام ويأسرون العامة به. وفي المقابل يهدمون ويقتلون بنقص كفاءتهم وترددهم. فهو من أصدر الأوامر بغزو تركيا وهو من ضغط على قادته حتى أصاب بعضهم أزمات نفسية استبدلوا في وسط المعارك. (4)

أثر جاليبولي في نجاح انزال نورماندي
حققت الدروس المستفادة من معركة جاليبولي إنزال ناجح في النورماندي إبان الحرب العالمية الثانية. فقد قام الحلفاء بالتخطيط الجيد والمفصل للإنزال وتم اختيار أفضل بقعة على الساحل الفرنسي. وكان الإنزال هو الأضخم على مر التاريخ حيث شاركت فيه قوات بحرية وبرية وجوية. كانت القرارات سريعة وتحرك القوات تماثلها حركية. تم تأجيل الإنزال يوماً بسبب سوء الأحوال الجوية. واستخدمت خطط التضليل والتكتيم حول موقع الانزال. كما شهدت المعارك انزال مظلي خلف خطوط الألمان. وبسبب الأعداد الكبيرة تم بناء مرافئ مؤقته لنزول القوات والمعدات والذخائر والمؤن. 

دروس لا نتعلم منها
درسنا الأول في أهمية الحفاظ على وتنمية الرأسمال البشري. رغم نجاح القوات التركية في الحفاظ على اسطنبول وقيام الدولة التركية الحديثة الا أنها خسرت الكثير من قواها البشرية في المعارك المختلفة في القوقاز والبحر الأسود وقناة السويس أيضاً. فالمعارك وبال على البشر وتكلفتها مدمرة والتعافي منها يحتاج الى التضحيات. لم تستطع تركيا أن تستمر في حروبها وهي في أوج ضعف الدولة العثمانية والخسائر البشرية الفادحة التي تُمنى بها في الشرق والغرب والأراضي التي تخسرها لصالح الأوروبيين. فتخلفت صناعاتها ولجأت الى المفاوضات والمعاهدات. لم يرضى الأتراك عن وضع الدولة العثمانية الضعيف ونجحوا في ثورتهم "الكمالية" التي قادها مصطفى كمال لاحقاً لتأسيس دولة تركية علمانية. الرأسمال البشري هو ثروة الوطن. وها هم بمئات الآلاف يُضحى بهم بلا نتيجة في دولنا العربية فنخسر تلك العقول الجبارة. 

ويتلخص الدرس الثاني في التغيير وادارته. هل نجح "أب الأتراك" أو "أتاتورك" في تغيير إصلاحي من جذوره أم أنه مزق الدولة التركية وأبعدها عن الإسلام؟ الإجابة واضحة في عودة أغلبية الشعب التركي اليوم لأصوله المسلمة. لا ينجح تغيير جذري كما قام به مصطفى كمال أتاتورك بين عشية وضحاها وتكوين دولة علمانية بأغلبية مسلمة ، فهذا تناقض. محاولة تغيير ومحو الثقافة في فترة قصيرة تكاد أن تكون مستحيلة. القارئ المنصف لأحداث التاريخ سيجد أن مصطفى كمال كان مخلصا لبلاده ساعيا لتطويرها حسب توجهاته وفهمه للأحداث حوله وكان مقتنعا بالفكر العلماني السائد في فصل الدين عن الدولة. وعلى ذلك استفادت تركيا بإعادة صداقاتها مع الدول الأوروبية والحصول على المكاسب الإقتصادية والسياسية. ولكنه كان جاهلاً بكيفية إدارة تغيير ثقافة المجتمع وأن المكاسب يمكن تحقيقها حتى وإن لم تعلن تركيا علمانيتها. فالفرق بين الأمرين هو وقت بناء وتطوير المجتمع الداخلي وأيضا بناء الثقة بين الدول. 

ودرسنا الثالث في ضرورة تنمية المواطن وتحمل هفواته لأنه الطريق الوحيد لبناء المجتمع المتكاتف. لا صبر لقيادات اليوم في بناء المجتمعات التي تتطلب الوقت والجهد وهم على قناعة زائفة بأن التنمية هي مجموعة مشاريع تشرف عليها شركات دولية متمكنة. أما الشعوب فهي لا تستطيع اللحاق بقطار التنمية السريع ولا قدرة لديها على ذلك. ولا يعلمون أن الدول المتقدمة ينفقون هدراً على مشاريع البحث والتطوير ويواجهون الفشل تلو الآخر ويصبرون حتى يصلون لمبتغاهم. أما في دولنا ، فمن أول هفوة ، تتم تنحية المغلوب على أمره. عاصر تشيرتشيل الحرب العالمية الأولى والثانية وتسبب بكوارث على مدى 25 عاماً حتى حصل على منصب رئيس وزراء بريطانيا عام 1940م. من أقواله: "إن كنت تمر عبر الجحيم ، واصل طريقك" ، فهو الذي انتقل من فشل الى فشل آخر دون أن يفقد حماسه.     

ونخص في درسنا الرابع التعايش مع اختلافاتنا بوجود هدف مشترك. لا يمكن لأي دولة أن تتعايش مع مواطنيها "العلمانيين" وتهمل مواطنيها "المسلمين" أو العكس. وللأسف لدينا أمثلة كثيرة اليوم ، تذهب الى حد التجريم والتكفير. يستحيل اقصاء الأخ عن أخيه والأب عن إبنه والقريب عن قريبه. فالكل يتأثر ويؤثر في مجتمعه. فأي حل يفرق بين أفراد المجتمع نتيجته الفشل. وكان أحد اسباب فشل الدولة العثمانية يتمثل في حالة الاستبداد وفرض الضرائب على الشعب الذي حورب في قوته وأصبح همه في توفير معيشته اليومية وتخلف علمياً وصناعيا وبالتالي ضعفت قوته العسكرية تدريجياً.    

وفي خامس درس نفهم أن الأطماع الأجنبية للدول الإستعمارية تعتبر أزلية وستستمر. فمعركة جاليبولي وضحت أن الغرب بتفوقه العسكري الهائل يرى أن بإمكانه  فعل ما يرغب بدون منازع ولو كان ظلما. لذا فإنه سيقتطع أي منطقة يشاء من الدول الضعيفة يساوم فيها ويفاوض الدول المستعمرة الأخرى لرفع سقف مكاسبه. وما يفاقم الوضع أن بعض السلاطين خوفاً على امبراطورياتهم يغدقون على الأجانب بأموال وامتيازات ومقدرات شعوبها حتى تبقى في السلطة ولا يعرفون أن الشعوب هي المخلص الحقيقي. 

وأخيراً ، هل الدولة العلمانية هي التي ستنهض بالأمة العربية والاسلامية؟ من تطرقنا لأسباب قوة وضعف الدولة العثمانية وجدنا أن الدولة العثمانية تأسست على العدل والمساواة (قانون نامه) فالشكل اسلامي والمضمون شورى (نظام يتفوق على الديموقراطية بسبب تصويته المباشر). فالعدل والمساواة كفلا تلاحم افرادها وبناء دولتها وبكلمة حق فهي الدولة التي تصدت للغزو الأوروبي ومثلت الإسلام خير تمثيل ونشرته في أوروبا. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق