الأحد، 9 يوليو 2017

حافز الإعتماد على الذات في حصار إيران

د. راشد علي السعدي

كانت بلاد فارس حاضنة للعلماء الذين ساهموا للبشرية في علوم الدواء والرياضيات والعلوم والفلسفة من أمثال الخوارزمي وأبو عباس فضل حاتم وأبو موسى وفرحاني وابن سهيل البلخي والفردوسي وأبوبكر الرازي وعبدالرحمن الصوفي وجابر بن حيان وأبوعلي الحسن ابن الهيثم وكمال الدين الفارسي.وهذا غيض من فيض. وقد ترجمت أعمال هؤلاء العلماء والفلاسفة من بلاد فارس إلى اللغة اللاتينية.
بعد إنتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م ، فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها ووسعتها لاحقا لتشمل التعامل مع الشركات. وفي عام 2006م  فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات جديدة بعد رفض إيران تعليق برنامجها لتخصيب اليورانيوم. تضررت ايران من العقوبات التي طالت استثماراتها في النفط والغاز والبتروكيماويات والتعاملات التجارية وشملت أيضا المصرفية والتأمينية. وأدت العقوبات إلى خسائر كبيرة على الشعب الإيراني وإقتصاد الجمهورية الإيرانية.
وبسبب حظر المعدات أو المواد الكيميائية "ذات الاستخدام المزدوج" التي قد يكون لها تطبيق عسكري مثل أجهزة الطرد المركزي التي تصنع اللقاحات ، واجهت ايران صعوبات في تأمين الدواء رغم أنه لم يخضع مع معداته الطبية للعقوبات الدولية. تسبب هذا الأمر في وفاة بعض مرضى السرطان والتصلب المتعدد وذوي مشاكل القلب والثلاسيميا والإيدز. "كيف واجهت إيران هذا الحصار المعقد وتغلبت عليه؟" سيكون هذا السؤال مجال بحثنا.

المواجهة والإعتماد على الذات

تعتبر الحاجة حافزاً للإبداع والإبتكار. فالحصار والمقاطعة الإقتصادية وخطر من تعتبرهم إيران أعداؤها هز كيان الدولة وأصبح خطراً ينذر بفناء وجودها السيادي. كل ذلك ساهم  في تكاتف الجميع  قيادة وشعب نحو السعي خلف خطط تمكنها من البقاء. أما حافز تصدير الثورة الإيرانية فلا يعتبر السبب الرئيسي  لنجاح إيران في كسر عزلتها وتخفيف حدة أزمة العقوبات. واجهت إيران تحديات عزلتها الإقتصادية بعدة استراتيجيات نعتبرها ناجحة وهي:
1.     إقتصاد المقاومة
2.     تشجيع الإبداع والإبتكار
3.     الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص
4.     التعليم والتدريب
5.     الإستثمار في الصناعة
6.     الدبلوماسية العلمية
7.     دور البنوك
8.     زيادة أعداد المتخصصين والخبراء
وسنتناول توضيح كل عامل.

إقتصاد المقاومة

إعتمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانبة استراتيجيات متعددة للخروج من مأزقها . فإنتقلت من إقتصاد الموارد إلى إقتصاد المعرفة أطلق عليه المرشد الأعلى "إقتصاد المقاومة" والذي يدعو إلى تقليل الإعتماد على الواردات والبدء بالإبتكار. فزاد عدد طلاب الجامعات من 100 ألف عام 1979م الى أكثر من أربعة ملايين طالب وطالبة عام 2013م وزادت أعداد الأكاديميين والبحوث الصناعية. ورفعت الحكومة إلتزامها بالتعليم العالي وأنشأت مراكز للبحوث والتكنولوجيا  تعني بالاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية وحل المشاكل. وربطت المصانع بالجامعات. وزاد الإنفاق على البحث العلمي والتطوير. وفي عام 2012م، أصبح لدى إيران 31 حديقة للعلوم والتكنولوجيا تستضيف أكثر من 3.650 شركة تعمل في إيران وتوظف أكثر من 24 ألف شخص.

تشجيع الإبداع والإبتكار

وفقا لمنظمة تسجيل الدولة للأملاك والممتلكات، تم تسجيل ما مجموعه 9.570 اختراعاً وطنياً في إيران خلال عام 2008م. ولدى إيران عدة صناديق لدعم ريادة الأعمال والابتكار ومنها صندوق الابتكار والازدهار التابع للمكتب الرئاسي، والصندوق الوطني لدعم الباحثين والصناعيين، ومعهد نوخبيغان لتطوير التكنولوجيا، وصندوق التكنولوجيا الحيوية، وصندوق التكنولوجيا النانوية، صندوق نوفين لتنمية التكنولوجيا، وصندوق شريف لبحوث تنمية الصادرات والتكنولوجيا، وصندوق دعم الباحثين والتكنولوجيين، وجوائز علمية وتكنولوجية، وصندوق دعم رواد الأعمال الطلابية. بالإضافة الى ستة آلاف صندوق خاص خالي من الفائدة و 3 صناديق لرأس المال الاستثماري.

الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص

كان لدى إيران 930 منطقة صناعية في 2014م، منها 731 جاهزة للتنازل لصالح القطاع الخاص. وتعتزم الحكومة الإيرانية وضع من خمسين الى ستين مجمعا صناعيا جديدا في خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية الخمسية. ولكن تشتكي إيران من ضعف مساهمة القطاع الخاص الذي لا يقدم الدعم في أنشطة التطوير والابتكار التقني. وإذا ما دعم القطاع الخاص بمؤسساته الصغيرة والمتوسطة سيعزز بشكل كبير شبكة الموردين. ولكن تساهم الحكومة الإيرانية في ضعفه بسبب المنافسة الشرسة له من طرف الشركات المملوكة حكومياً وبسبب عدم القدرة على سداد الديون. وهناك عوائق أخرى للتنمية الصناعية التي يواجهها القطاع الخاص منها الافتقار إلى مؤسسات الرقابة والأنظمة المصرفية الغير فعالة والإجراءات البيروقراطية المعقدة والافتقار إلى حماية الملكية الفكرية وضعف التسويق.
وعلى الرغم من هذه المشاكل، حاولت إيران علاج هذه الأسباب فأحرزت تقدما في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، بما في ذلك البتروكيماويات والأدوية والفضاء والدفاع والصناعات الثقيلة. وحتى في مواجهة العقوبات الاقتصادية، بدأت إيران في الظهور كبلد صناعي. وتم تأسيس العديد من الشركات في إيران خلال العقود القليلة الماضية. على سبيل المثال، سيناجن، التي أنشئت في عام 1992م، وهي واحدة من الشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا الحيوية في المنطقة والتي فازت بجوائز إبتكار في مجال بحوث التكنولوجيا الحيوية. في عام 2006، أعلنت شركة بارسيه Parsé Semiconductor Co أنها قد صممت وأنتجت معالج كمبيوتر "32 بت" محلياً لأول مرة. أما شركات البرمجيات فتنمو بسرعة. ففي معرض سيبيت 2006 CeBiT في هانوفر بألمانيا ، عرضت عشر شركات برمجيات إيرانية منتجاتها. كذلك، كشفت المؤسسة الوطنية الإيرانية لألعاب الكمبيوتر عن أول لعبة فيديو على الإنترنت في البلاد في عام 2010م  قادرة على دعم ما يصل إلى 5000 مستخدم في نفس الوقت.

التعليم والتدريب

تطورت إيران بفضل التعليم والتدريب بالرغم من المقاطعات الإقتصادية لها. ومعدل التقدم العلمي يعتبر الأسرع في العالم. وأحرزت تقدما في بحوث الفضاء والعلوم النووية والتطور في المجالات الطبية وأبحاث الخلايا الجذعية والإستنساخ وتقنيات النانو، وعلوم الوراثة، والهندسة الكيميائية، والهندسة الزراعية، وأنظمة الاتصالات بالليزر، وعلوم الكمبيوتر والإلكترونيات، وغيرها.
وكان الفضل للأساتذة والمعلمين الذين غرسوا الهوية الإيرانية الإسلامية في نفوس الطلبة، فمن خلال بيان قدرات البلد والإختراعات العلمية في مجال الطب والفضاء والطاقة وغيرها من المجالات يشعر الطالب بالفخر والإعتزاز بوطنه وبالتالي يسعى بدوره الى ان يكون مساهم في تقدم بلاده وتطورها.

الإستثمار في الصناعة

واصلت ايران ومنذ نجاح ثورتها الاسلامية، الاستثمار الممنهج في الصناعة التي تعتمد على البحوث والتنمية المكثّفة، مما جعل العدو قبل الصديق يشهد لها بالثورة الفكرية والتقدم التكنولوجي التي تحققه البلاد وعلى مختلف المجالات.
رأت القيادة الإيرانية أن المشاركة في الإستثمار والتكنلوجيا والتصدير أهم مجالات التركيز لنقل التقنية والإعتماد على الذات. وعندها لن تتضرع الى الغرب لإستيراد السلاح إنما ستقوم بتصنيعه. فالإستيراد يكلف مبالغ خيالية تستنزف الإقتصاد الوطني بإستمرار بينما التصنيع المحلي تكاليفه أقل بكثير ويتميز بالمرونة والإستدامة. 

الدبلوماسية العلمية

إستفادت إيران من الدبلوماسية العلمية والتقنية التي مهدت لها الطريق لتحول العلم الى قوة. فإستقطبت النخب العلمية وتبادلت الزيارات العلمية في البداية مع الدول الآسيوية. وأظهرت للعالم أنها دولة ديمقراطية تسعى إلى توفير أجواء للتقارب العلمي بينها وبين دول العالم. وركزت على العلاقات العلمية مع الدول الأوروبية والأمريكية. وقامت بتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة والطب والمحاصيل الزراعية وإنشاء مراكز ومختبرات علمية.

دور البنوك

تولت البنوك الايرانية الاولوية في دفع تكاليف مشاريع العلم والمعرفة والتكنولوجيا من صندوق التنمية الوطنية . وبهذا إكتسبت خبرة في توظيف مواردها في مجال تمويل مشاريع العلم والمعرفة. وتحتل ايران الان مرتبة متقدمة جداً بحسب الاحصائيات العلمیة التي تجريها كبريات المؤسسات المتخصصة، سواء من حيث حجم المقالات العلمية العالمية التي تنشر في المجلات المحكمة أو من حيث الاختراعات والتجارب العلمية الفريدة أو أعداد المراكز العلمية وجامعات التعليم العالي، وتفوقت ايران بذلك في ترتيب الانتاج العلمي والتكنولوجي على كل من سويسرا وتركيا.

أعداد كبيرة من المتخصصين والخبراء

وجود قوة كبيرة من المتخصصين والخبراء في ايران حتما سيساهم في تطور وازدهار اقتصاد البلاد. وهذا ما سعت له الدولة وتحقق. قال رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، اللواء هرتسي هليفي: "وصل عدد الطلاب الإيرانيين الذين يلتحقون بمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى حدود السماء".
دعونا الآن نقرأ ونتأمل هذه التطورات العلمية التي وصلت إليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال حقبة بسيطة من الزمن في ظل الحصار الإقتصادي.  

التطورات العلمية في جمهورية إيران الإسلامية

تعتبر العلوم النظرية والحسابية متطورة جدا في إيران. وعلى الرغم من القيود المفروضة على الأموال والمرافق والتعاون الدولي، كان إنتاج العلماء الإيرانيين مثمراً جداً في العديد من المجالات التجريبية مثل الصيدلة والكيمياء الصيدلانية والكيمياء العضوية والبوليمر. وقد اكتسب علماء الفيزياء الحيوية الإيرانيون سمعة دولية، وخاصة علماء الفيزياء الحيوية الجزيئية. وقد تم تصنيع مرفق رنين مغناطيسي نووي عالي المستوى، وأدوات قياس ميكرومترية وأدوات لدراسة القناة البروتينية الأحادية خلال العقدين الماضيين. وقد بدأت هندسة الأنسجة والبحوث المتعلقة بالمواد الحيوية في الظهور في أقسام الفيزياء الحيوية.

وبالنظر إلى هجرة العقول من إيران ، وعلاقتها السياسية السيئة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى، فإن المجتمع العلمي الإيراني لا يزال منتجاً. وتعتبر إيران أن التخلف العلمي هو أحد الأسباب الجذرية للتنمر السياسي والبلطجة العسكرية من قبل الدول المتقدمة على الدول النامية. وتهدف إيران حاليا إلى تحقيق هدف وطني يتمثل في الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات العلمية. ويشارك العديد من العلماء الإيرانيين، جنبا إلى جنب مع الأكاديمية الإيرانية للعلوم الطبية وأكاديمية العلوم في إيران.

العلوم الطبية

يتدفق المرضى الذين يعانون من أنواع مختلفة من السرطان من عُمان والعراق وسوريا ولبنان وافغانستان إلى مركز الدم وزرع النخاع في مستشفى شريعتي للإستفادة من بنك مخزونات الخلايا الجذعية الأكثر تقدما في العالم. ويتوافد أيضاً مرضى الكبد من هذه البلدان الى المركز الأول لزراعة الكبد في مدينة شيراز.
في عام 2012م كان ترتيب إيران 19 في مجال الأبحاث الطبية ووضعت خطة للوصول الى الترتيب العاشر خلال عشر سنوات. لدى إيران أكثر من 400 من مرافق البحوث الطبية. وتنشر أبحاثاً  في الروماتيزم وأمراض الدم وزرع نخاع العظام بإستمرار.  وقد تم تأسيس مركز بحوث أمراض الدم والأورام ونخاع العظم (HORC) التابع لجامعة طهران للعلوم الطبية في مستشفى "شريعتي" في عام 1991م. وعلى الصعيد الدولي، يعد هذا المركز أحد أكبر مراكز زرع نخاع العظم، وقد نفذ عددا كبيرا من عمليات الزراعة الناجحة . وتوجد خدمات متخصصة في أمراض الدم والأورام للأطفال في جميع المدن الكبرى تقريبا تقدم الرعاية للأطفال الذين يعانون من السرطان أو اضطرابات الدم . وإلى جانب أمراض الدم، اجتذب الجهاز الهضمي مؤخرا العديد من طلاب الطب الموهوبين. وأنتج مركز أبحاث أمراض الجهاز الهضمي في جامعة طهران عددا متزايدا من المنشورات العلمية منذ إنشائه.
يرجع تاريخ زراعة الأعضاء في إيران إلى عام 1935م، عندما أجريت أول زراعة للقرنية في في مستشفى فارابي في طهران. قام مركز شيراز نيمازي لزرع الأعضاء، وهو أيضا من المراكز الرائدة في إيران، بأول عملية زرع كلى إيرانية في عام 1967م وأول عملية زرع كبد في عام 1995م. أجريت أول عملية زرع قلب في إيران عام 1993م في تبريز. وكانت أول عملية زرع للرئة في عام 2001م، وأجريت أول عملية زرع القلب والرئة معاً في عام 2002م، في جامعة طهران. طورت إيران أول رئة اصطناعية في عام 2009م للانضمام إلى خمسة بلدان أخرى في العالم تمتلك هذه التكنولوجيا. حاليا، يتم إجراء عمليات زرع الكلى والكبد والقلب بشكل روتيني في إيران. وتحتل إيران المرتبة الخامسة في العالم في عمليات زراعة الكلى. كان معدل البقاء على قيد الحياة لزرع الكلى لمدة 3 سنوات 92.9٪. وقد أقر البرلمان عام 2000م قانون زرع الأعضاء عند الموت الدماغي، أعقبه إنشاء الشبكة الإيرانية لزراعة الأعضاء. وقد ساعد هذا العمل على توسيع برامج القلب والرئة والكبد.
وأخذ علم الأعصاب في الظهور أيضا في إيران. فقد تم إنشاء عدد من برامج الدكتوراه في علم الأعصاب الإدراكي والحسابي في البلاد خلال العقود الأخيرة. اخترع جراحون إيرانيون كانوا يعالجون المصابين الإيرانيين أثناء الحرب الإيرانية العراقية علاجا جديدا للجراحة العصبية للمرضى المصابين بجروح في الدماغ، غطت على التقنيات الأمريكية السائدة ، وقد ساعد هذا الإجراء الجراحي الجديد في تخفيض معدلات الوفاة للمرضى المصابين من 55٪ عام 1980م إلى 20٪ عام 2010م. وتحتل إيران المرتبة الأولى في الشرق الأوسط والمنطقة في طب العيون.

التكنولوجيا الحيوية

يعتبر قطاع التكنولوجيا الحيوية لإيران واحداً من الأكثر تقدما في العالم النامي. ويقود معهد الرازي للأمصال واللقاحات ومعهد باستور في إيران مرافق إقليمية رائدة في مجال تطوير وتصنيع اللقاحات. قام معهد "رازي" الايراني بتصميم أجهزة الطرد المركزي فائق السرعة وإستخدامها في مجال انتاج الأدوية واللقاحات. في يناير 1997م، تم إنشاء جمعية التكنولوجيا الحيوية الإيرانية للإشراف على بحوث التكنولوجيا الحيوية في إيران. 
وقد نجحت البحوث الزراعية في توفير أصناف عالية الجودة وانتجت العديد من النباتات المعدلة وراثياً في المختبرات مثل الذرة المقاومة للحشرات. كما استنسخ معهد رويان أول الأغنام في إيران. وتعتبر أبحاث الخلايا الجذعية في إيران هي من بين أفضل 10 أبحاث في العالم.

الفيزياء النووية 

حققت إيران بعض النجاحات الهامة في مجال التكنولوجيا النووية خلال العقود الأخيرة، وخاصة في مجال الطب النووي. وهي الآن تتحكم بدورة كاملة لإنتاج الوقود النووي وتعتبر ضمن 14 دولة تمتلك تكنولوجيا نووية.

علوم الحاسب الآلي والالكترونيات والروبوتات

تصر إيران على ضرورة استخدام الأنظمة التشغيلية المحلية وتجنب استخدام الأنظمة التشغيلية الأجنبية مثل "الويندوز" و"اللينوكس" في مجال صناعة الاسلحة من منظور أمني. ولديها مدارس علمية ثانوية متميزة في التصميم، الروبوتات، والأتمتة. يخطط الباحثون لتطوير قدرات الكلام والرؤية ومزيد من الذكاء لهذا الروبوت والانسان الآلي الذي إستخدم ايضاً في صناعة السيارات. وإفتتحت مركز أبحاث المعالجات وأنتجت جهاز كمبيوتر فائق السرعة. تم إطلاق نظام لينوكس SUSE المستند إلى لينوكس من قبل معهد أبحاث الفضاء الإيراني. 

الكيمياء وتكنولوجيا النانو

وقد انطلقت البحوث في مجال تكنولوجيا النانو في إيران منذ تأسيس مجلس مبادرة التكنولوجيا النانوية في عام 2002. ويحدد المجلس السياسات العامة لتطوير تكنولوجيا النانو وينسق تنفيذها. وهي توفر التسهيلات وتخلق الأسواق وتساعد القطاع الخاص على تطوير أنشطة البحث والتطوير ذات الصلة. في العقد الماضي، تم تأسيس 143 شركة تكنولوجيا النانو في ثمانية صناعات. أكثر من ربع هذه موجودة في صناعة الرعاية الصحية، مقارنة مع 3٪ فقط في صناعة السيارات. وحاليا تتخصص خمسة مراكز بحثية في مجال تكنولوجيا النانو، بما في ذلك مركز أبحاث التكنولوجيا النانوية في جامعة شريف، الذي أنشأ أول برنامج للدكتوراه في إيران في مجال علم النانو وتكنولوجيا النانو. ولقد نجح الباحثون الايرانيون في جامعة "شهيد بهشتي" في انتاج جسيمات نانوية معدنية ذات خصائص ضوئية قابلة للاستخدام في علم المواد والليزر وتقنية المعلومات.

الطيران والفضاء 

أطلقت شركة "سفير" بنجاح القمر الصناعي "أوميد" في المدار في فبراير 2009م وتخطط ايران إرسال أول رائد فضاء إيراني إلى الفضاء على متن مكوك إيراني بحلول عام 2019م. في عام 2013م، قامت إيران ببناء أول نفق رياح بسرعة تفوق سرعة الصوت لاختبار الصواريخ وإجراء أبحاث الفضاء. وتعتبر إيران الدولة الثامنة القادرة على تصنيع المحركات النفاثة. 

علم الفلك

كشفت إيران عن أكبر تليسكوب مصنوع محليا يسمى "تارا" ومركز استكشافي وبرنامج تدريبي في خطة لتأسيس قاعدة فلكية. وفي عام 2016م، كشفت إيران عن تليسكوب بصري جديد لمراقبة الأجسام السماوية. وسوف يستخدم للفهم والتنبؤ بالمواقع للأجرام والأقمار الطبيعية أو الصناعية في مدارها حول الأرض. 

الطاقة 

وقد حققت إيران الخبرة الفنية لإنشاء محطات توليد الطاقة الكهرومائية والغاز والدورة المركبة. وهي من بين أربعة دول العالم القادرة على تصنيع توربينات الغاز المتقدمة ، وتستطيع إنتاج جميع الأجزاء اللازمة لمصافي الغاز. وتعتبر الآن ثالث بلد في العالم قام بتطوير تكنولوجيا الغاز إلى الحالة السائلة. وتنتج إيران 70٪ من معداتها الصناعية محليا بما في ذلك توربينات مختلفة ومضخات ومحفزات ومصافي وناقلات نفط وحفارات نفطية ومنصات بحرية وأدوات استكشاف. 
استبدلت إيران غاز الكلور الخطير على الصحة بالملح في عملية تطهير المياه وتنقيتها مما قلل من مخاطر الكلور، وهي وسيلة سهلة ومنخفضة التكلفة لتوفير المياه النظيفة للشرب والزراعة والصناعة. وأوضح الباحث أن المواد المستهلكة هو جهاز التحليل الكهربائي والملح وتيار الكهرباء حيث تم تعديل كمية الملح نظرا إلى كمية المياه بصورة ذكية ثم تمرر في مفاعل الجهاز وبعد اجتياز عملية الكهرباء والتحليل الكهربائي ،  يتم إخراج المنتج النهائي من الجهاز وتخزينه في خزان إذ يستخدم لتطهير شبكة المياه أو الخزان أو حوض السباحة.

التسلح:

تمتلك إيران التكنولوجيا لإطلاق صواريخ فائقة السرعة والمضادة للغواصات التي يمكن أن تسير بسرعة 100 متر في الثانية تحت الماء، مما يجعلها في المرتبة الثانية بعد روسيا في امتلاك التكنولوجيا. وهي من بين الدول الخمس في العالم التي قامت بتطوير الذخيرة باستخدام تقنية استهداف الليزر. وتمتلك إيران المعرفة التكنولوجية المطلوبة لتصميم وصناعة المركبات الجوية بدون طيار مزودة بنظام المسح والاستطلاع. وتصنف إيران من بين 12 دولة لديها تكنولوجيا الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي المتنقلة المتقدمة. على مدى السنوات الماضية، حققت إيران اختراقات هامة في قطاعها الدفاعي وحققت الاكتفاء الذاتي في إنتاج معدات وأنظمة عسكرية مهمة. ومنذ عام 1992م، قامت بإنتاج الدبابات الخاصة بها، وناقلات الأفراد المدرعة، والرادارات المتطورة، والصواريخ الموجهة، والغواصات، والطائرات المقاتلة. كذلك قامت بصناعة شاشات العرض المتعددة الوظائف MFD للطائرات. كما نقلت تقنية صناعة الصواريخ مافوق الطيفية او الاستشعار عن بعد. وتفتخر بصناعة صاروخ فجر 5 الموجه، وصواريخ منظومة ميثاق 3 المحمولة على الكتف، ونظام اطلاق القنابل اليدوية بعيار 40 ملم وعتاد متطور، والسلاح الفردي بعيار 45×5.56 بالإضافة الى مسدس جديد محلي الصنع وخطوط انتاج هذه الأسلحة.

التعاون العلمي

وتستضيف إيران سنويا مهرجانات علمية دولية منها مهرجان خوارزمي الدولي في العلوم الأساسية ومهرجان الرازي السنوي لبحوث العلوم الطبية. وهناك أيضا تعاون مستمر في مجال البحث والتطوير بين الشركات الكبيرة المملوكة للدولة والجامعات في إيران.
وعلى الرغم من أن العقوبات تسببت في حدوث تحول في الشركاء التجاريين الإيرانيين من الغرب إلى الشرق، فإن التعاون العلمي ظل موجها نحو الغرب. بين عامي 2008 و 2014، كان أكبر شركاء إيران للتعاون العلمي وهم الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا، وبهذا الترتيب. شارك العلماء الإيرانيون في إعداد ما يقرب من ضعف عدد المقالات مع نظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية كما هو الحال مع أقرب المتعاونين في كندا والمملكة المتحدة تعاون العلماء الإيرانيون والأمريكيون على عدد من المشاريع. 
 وقد قدمت إيران طلبا رسميا للمشاركة في مشروع يقوم ببناء مفاعل نووي حراري نووي دولي في فرنسا بحلول عام 2018. 
وتستضيف إيران العديد من مراكز البحوث الدولية مثل المركز الإقليمي لحديقة العلوم وتطوير حاضنة التكنولوجيا (اليونسكو 2010م)، والمركز الدولي لتكنولوجيا النانو (اليونيدو 2012م) والمركز الإقليمي للتربية والبحوث لعلم المحيطات لغربي آسيا (اليونسكو).
وتعزز إيران تعاونها العلمي مع البلدان النامية. وهي أفغانستان وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وباكستان وطاجيكستان وتركيا وتركمانستان وأوزبكستان. وهي عضو نشط في الكومستيك وتتعاون في مشاريعها الدولية. ويشارك المهندسون الإيرانيون في تصميم وبناء أول مسرع للجسيمات الإقليمية في الشرق الأوسط في الأردن، يسمى سيزام.
ومنذ رفع العقوبات الدولية، بدأ الطلاب والأكاديميين والباحثين والعلماء الايرانيين بزيارة المواقع العلمية الدولية. وتقوم ايران اليوم بتطوير روابط علمية وتربوية مع الكويت وسويسرا وايطاليا والمانيا والصين وروسيا.

الدرس الأخير

قدمت لنا إيران دروساً وعبر في كيفية الإعتماد على الذات ككيان ودولة نبعت من الحاجة لتوفير مستلزمات الحياة من أجل البقاء. وإذا ما أردنا أن نعتمد على ذاتنا كإيران يجب أن نعيش بمبادئ الإعتماد على الذات ونلتزم بها. ومن أهم هذه المبادئ الإيمان بعقيدتنا ودورنا في هذه الحياة والإلتزام بمسؤولياتنا في هذا المجتمع وإستغلال الوقت بحكمة. علينا أن نقوم بحل المشاكل التي تعترضنا ونرشد النفقات ونتعاون ونتفاهم ونثابر في التحصيل العلمي والعمل والإنتاج. نعمل بأخلاقيات المهنة وبامانة وإستقامة.
ما حك جلدك مثل ظفرك
فَتَوَلَّ أنْتَ جَميعَ أمركْ
وإذا قصدْتَ لحاجَة
فاقْصِدْ لمعترفٍ بقدْرِكْ
الشافعي
  

المراجع

الاثنين، 3 يوليو 2017

رأب الصدع الخليجي


د. راشد علي السعدي

يعز علينا ونتألم عندما نشاهد تدهور حالة الخلاف الخليجي ووصولها إلى حالة شقاق تصدعت معه أركان مجتمعنا الخليجي الذي "تعاون" بالأمس ولكن إنهار صرحه اليوم. ويؤلمنا أكثر أن نكتشف العلاقة الهشة بين قادة دول مجلس التعاون والتواصل "الغير خليجي" بينهم وغياب صراحة الحديث. من لم يأسف ويتحسر ويندى جبينه للتراشق اللاأخلاقي الذي وصل إلى الشعوب الخليجية؟ من تخيل أن تصل شرور الإنتقام إلى حصار شعب خليجي من قبل أشقاؤه في شهر فضيل ، وحرمانه من التواصل مع أرحامه وذويه ، وخصوصا في عيد الفطر؟
لنرجع للماضي برهةً نكتشف العلاقات الخليجية قبل قرنين من الزمان وكيف كانت. لقد عصفت بشعوب المنطقة حضارات مختلفة متنازعة فارسية وعثمانية وبريطانية لم تكل ولم تهدأ في مناوشاتها ومشاكلها وحروبها وتحالفاتها وتغيير ولاءاتها. لقد تعرضت دول الخليج للكثير من التجاذبات السياسية والغزوات وكان يرجع السبب دائماً إلى غياب الوحدة بين القبائل. ولكن ما إن توحدت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإلتفت قبائل دولة قطر حول مؤسسها ، حتى أصبحت قوة وتدرجت بالإستقرار. وبعد إكتشاف النفط ، تسارعت عجلة التنمية وأحدثت تطوراً هائلاً وصلت إلى مصاف الدول المتقدمة في الإقتصاد والبناء والتسليح ونعمت بالإستقرار لعقود من الزمان . لم يتواصل تكاملها أكثر فتوقف عند "لكم دينكم ولي دين". لم تتوحد أنظمتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وتنافس الأخوة الأعداء وإستعانوا بالمستعمر الطامع. وها هي تحالفاتها تتفكك من جديد.
ربما كانت الصورة القاتمة أعلاه توحي للتشاؤم ولكنها لن تكون كذلك غداً. ينبع التشاؤم من صراع الأخوة وعدم قدرتهم في الوقت الراهن على التغير بسرعة للوصول إلى مرحلة التواصل الصريح والمكاشفة والموضوعية في الطرح البناء وتقبل النقد. بالتأكيد دول الخليج لن تتضعضع وإن إستمرت الخلافات أعواماً ، لأن التاريخ يعلمنا أن شعب الخليج لديه عمق ثقافي موحد يستحيل أن تتغلغل الخلافات خلال طيات تكوينه الدينية والثقافية المتعددة.
أحاول في هذه الورقة أن أقدم موضوعاً لرأب التصدع الخليجي وهو موضوع غاية في الأهمية يتطلب عناية في القراءة والتحليل وسأحاول أن أتجنب الخوض فيما لا أعلمه من خبايا الأمور بين القادة الخليجيين. لذا ، سأطرح خطوات للمصالحة ، من منظور وصفي وتحليلي ، تجنبنا تداعيات كبيرة وتختصر علينا الوقت. وبكل بساطة فإن الموضوع هو موضوع "إدارة صراع". ولقد كتبت عن إدارة الصراع في ورقة سابقة (هنا). وما يزيد على ما ذكرت في الورقة السابقة هو طرح خطوات إجرائية تقوم بها دول الصراع لتفادي تداعياته وحل المشاكل العالقة والنظر للمستقبل.

تجارب الدول 

كانت خصومة فرنسا وألمانيا من الخصومات التاريخية التي خاضت ثلاث حروب كارثية في الفترة بين 1870م و 1945م. ومع ذلك، في عهد ما بعد الحرب، تطور صراعها وعدائها بشكل كبير إلى شراكة وتعاون متبادلين. وخلافا للحالة الفرنسية الألمانية، لا تزال العلاقات بين اليابان وجمهورية كوريا متقلبة بسبب انعدام الثقة والعداوة كامنة بينهما نابعة من مخاوف الأمن والاقتصاد. ومن دمشق إلى رواندا وجنوب أفريقيا، تعلمنا درسا صعباً أنه في حالات الصراع ، يجب أن توضع المصالحة في الصدارة عندما نسعى لتحقيق العدالة.
وتكمن صعوبة التوافق في مدى صعوبة العثور على نقطة البداية للمصالحة والتسامح عندما يكون سبب العداء الرئيسي غير مرئي. ولكن إن إستطعنا الكشف عن أسباب العداء ، ربما سنناضل بشكل مؤلم مع هذه الخلافات ، ولكننا على الأقل نعرف أين نقف عندما تكون مسببات خلافاتنا وعداواتنا واضحة وعلنية.
أما إن تحول الصراع إلى عنف إرهابي فقد خرج عن نطاق ممارسات حل النزاعات، مثل منع الصراعات ، وصنع السلام عن طريق المفاوضات والحوار ، وبناء السلام والتوافق. فالإرهاب شكل من أشكال العنف الذي يعتقد بعض صناع القرار المهيمنين على سياسات العالم أنه لا يمكن التصدي له إلا من خلال القانون أو القوة العسكرية ، رغم أن غيرهم من قادة الدول يعتقدون أن الإرهاب له جذور سياسية وإقتصادية وإجتماعية تحتاج الى مداولة. ونأمل أن لا نسير على هذا الطريق.

خطوات المصالحة

كبشر ، لنا علاقات إجتماعية مكثفة تعتمد على علاقات جيدة مع من حولنا. لكن أهدافنا تتعارض بإستمرار مع أهداف الآخرين. وعندما نسعى لتحقيق أهدافنا نلحق الضرر ببعضنا البعض إما بكلمات جارحة أو عنف جسدي أو إبتزاز أو غش ، وهلم جرا. وإن كان ذلك على مستوى مجموعات أو دولة يكون التأثير مضاعفاً ، رغم أننا نحتاج أن نتعايش جنبا الى جنب. فكيف نستعيد العلاقة الجيدة؟
أولى خطوات المصالحة هي الكشف عن حقيقة ما يحدث بصراحة. وعندما نستعرض الحقائق والأدلة يتوقع أن يعترف الجاني بفعلته والضرر الذي تسبب به. وتأتي بعدها خطوة الإعتذار للضحية. عندها يمكن أن يتسامح الطرفان وتتحق العدالة بشكل ما. ولا تنتهي عند هذا الحد ولكن يخطط لمنع تكرار ما حدث. ثم تستأنف الجوانب البناءة للعلاقة المفقودة. ومع الوقت فقط ستبنى الثقة. دعونا نشرحها.

الكشف عن الحقيقة

إن كشف الحقيقة عن الأضرار قد يكون بسيطا جداً ، أو صعبا جداً ومثير للجدل. هناك حاجة إلى فهم من فعل هذا ، ولأي أسباب ، مع النوايا. في حالات بسيطة ، يكون الضرر الناجم عرضي ، وليس مقصودا ، وهو كل ما يتطلب معرفته لتحقيق المصالحة. وفي الحالات المعقدة، يمكن تبيانها بالتفصيل المتسلسل ، ​​مع مراعاة تأثير كل حدث وتوضيح السلوك الضار. يجب تجنب" لعبة اللوم. "لعبة اللوم" تفترض أن المسؤولية عن الضرر تقع تماما على طرف واحد ، وسوف يرى الطرف الآخر الوضع في الاتجاه المعاكس. ومن المفيد أن يوضع المتنازعين على كل جانب من جوانب الحقيقة وتبدأ محاولة تسجيل الروايات المتضاربة بين الجانبين وسيكون من الممكن في نهاية المطاف أن يُكتب تاريخ موحد للنزاع.

الإعتراف

يجب أن يكون هناك اعتراف مسؤول وصادق من الطرف الجاني للضحية عن الضرر الذي تسبب به ، أو ساهم في الأسباب التي قادت إليه. ويجب أن يتضمن الإقرار أكثر من الحقائق الموضوعية للضرر، ليشمل أيضا المعنى العاطفي للضرر. وهذا الأمر غاية في الأهمية للضحية لأنه يعكس حقيقة معاناته، وحقيقة أن الآن هناك شخص ما يتحمل المسؤولية عن ذلك. إكتشف الأطباء أن الكثير من القضايا القانونية المرفوعة ضدهم في المحاكم كانت بسبب الإهمال والأخطاء ، لأنهم لم يعترفوا عن الخطأ ، وبسبب نتيجة المعاناة التي سببها هذا الخطأ ، أو الإهمال لهم ولأقربائهم ، وهو أكثر أهمية بالنسبة لهم من التعويض المالي.

الإعتذار

يجب أن يكون هناك اعتذار صادق من الجاني للضحية عن الضرر الذي لحق به. يجب أن تحتوي على المعاني التالية:
 "أنا أعتذر عما فعلته. وأتمنى لو لم يحدث ، ولم أتمنى يوماً أن تعاني من هذا الضرر. وإن شاء الله لن يحدث ذلك أبداً".
في اعتذار الجاني بهذه الصيغة فإنه يقر أنه تجاوز معايير السلوك البشري وها هو يعيدها ثانية. ويعترف بالدَين الأخلاقي للضحية. وهنا بداية بناء الثقة. هذا الحِمل ليس صغيرا ويتطلب شعوراً صادقا بحل الخلاف وفتح صفحة تعاون وشراكة جديدة مبنية على القيم والمعايير الأخلاقية للعلاقات البشرية. أما من جانب الضحية ، فيمكنه قبول الإعتذار أو رفضه. ومن المرجح أن يكون الرفض إن بدى أن الاعتذار غير صادق أو يتضمن اعترافا غير كاف بالضرر.

التسامح

غالبا ما يتبع الاعتذار، أو يعني ضمنا، طلب التسامح. والتسامح أو الغفران عملية داخلية معقدة للضحية ، تنطوي على الانتقال من الغضب والاستياء ، والاعتقاد بأن الدَين الأخلاقي مستحق من الجاني، والرغبة في الانتقام ، إلى وضع تخفيف الغضب وإنهاؤه ، وإلغاء الديون ، ونبذ الانتقام ، والمضي قدما في العلاقة ، وإسقاط أي إشارة إلى الأخطاء التي ارتكبت سابقا. فالعديد من الذين يمرون بهذه العملية يختبرونها على أنها تحرر بمعنى التخلص من أعباء الغضب أو الاستياء أو الأوهام الانتقامية. وفي حالات الضرر الخطيرة، فإن وصول الضحية إلى حالة الغفران يفترِض أن الضرر النشط قد انتهى وقد يتطلب تصورا بأن بعض العدالة قد تمت. ننتقل الآن إلى هذا الموضوع الصعب.

العدالة

مفاهيم العدالة هي أساسية جدا لأدائنا الأخلاقي ولكن ما هي العدالة؟ هل هي التوزيع العادل للأشياء الجيدة والسيئة؟ هل تعتبر شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ مفاهيم حقوق الإنسان العالمية تتحدى هذه المعتقدات. وتقول لا ينبغي توزيع "الأمور الجيدة" فحسب ، بل ينبغي أيضا توزيع "الأمور السيئة" على نحو عادل ، مثل الضرائب في المجتمعات ، والأعمال المنزلية في بيت الأسرة. في العلاقات الشخصية ، يبدو أن هناك فكرة تقريبية عن المعاملة بالمثل. أنت تدعوني لتناول العشاء ، سأدعوك يوماً ما. كنت تقترض المال مني ، إذاً لدي الحق أن أطلب منك قرض في المستقبل. في هذه "السيئات" الخطيرة التي ننظر فيها هنا ، عندما يلحق الضرر لطرف واحد على حساب الآخر، نميل إلى الشعور بضرورة أن يكون هناك بعض التوازن: يجب أن يعاني الجاني بعضاً من الأمور السيئة. لا ينبغي له أن يتملص منها ويفلت من العقاب. وعقابه يأخذ شكل الانتقام الذي يعتبر إيذاءاً متعمداً من الضرر الذي تلقاه الجاني.
يشير "جوفييه" ، مؤلف كتاب التسامح والإنتقام ، إلى مشكلة أخلاقية أساسية جدا مع الانتقام. استنادا إلى أخلاقيات احترام الأشخاص وعدم استخدام الأشخاص كأدوات لرضانا، يصبح الانتقام مرفوضا. إنه الضرر المتعمد لتحقيق الرضا الشخصي الذي يزرع الشر في أنفسنا. عندها ، يصبح المنتقم هو الجاني. أما فيما يتعلق بحجة الردع - فهناك شيء منافٍ للعقل حولها. فمن المرجح أن تطبق ثقافة الانتقام في كلا الاتجاهين. ويبدو أن فعل الانتقام قد يثير انتقاما آخر ، إلا إذا كان التفاضل في السلطة يجعل ذلك خطرا للغاية على الطرف الآخر. في هذه الحالة ، سيكبت الطرف الأضعف مسألة الاستياء التي تحرقه كمداً وسينتظر ، وربما إنتظر لقرون ، في انتظار تغير الظروف. وإذا وصلنا لهذه الحالة فقد وصلنا لحالة تدميرية عميقة. وسيُقتل الأبرياء، ولن تعالج جذور المشكلة أبدا ، وسينخرط الضحية بعمليات الإنتقام القادمة ، والتي تليها. وسيعيش آخر المنتقمين خوفا وتحسباً من أي هجوم. ولا يمكن تحقيق المصالحة. حدث هذا مع العائلات الألبانية منذ بضع سنوات. اقترح عليهم "يوهان غالتونغ" بنجاح أن تنضم العائلات المتقاتلة ضد عدو مشترك وهو نظام الخلافات الدموية نفسه.

التخطيط لمنع التكرار

وإذا تم تقديم الإعتذار ، يكون الوعد بعدم التكرار صريح أو ضمني. ولكن ، هل يكفي هذا للضحية التي تعرضت لأذى خطير؟ قد يكون الوعد غير صادق ، ويمكن أن يُقدَم بشكل جيد بدون خطط جادة لتطبيقه ، وربما كان هناك إعتذار بدون فهم كاف للعوامل التي تسببت بوقوع الضرر في المقام الأول. ويحق للضحية أن يقرر عدم المخاطرة بالتكرار  عندما يشعر بأن المحاولات قد وصلت إلى الحد الذي لا يمكن التصالح مع علاقة غير مرغوب فيها.
في المقابل ، يمكن أن تحمي الإعتذار برسائل المصالحة ، وبدء مشاريع الاستثمار التي تشير إلى العدالة. وسيكون تعليم السلام والمصالحة في المدارس إسهاما بناءً. وقد تكون إشارات التقييم الإيجابي والإطراء للعناصر السكانية المتنوعة مفيدة. وقد يلزم التدقيق في جوانب مؤسسات الدولة للتأكد من عدم مساهمتها في العنف، وتتخذ التدابير لتنقيحها.

استئناف الجوانب البناءة للعلاقة

ربما يكون استئناف تبادل السلع والخدمات هو أكثر الطرق وضوحا في التعبير عن الترابط الأول في علاقات الصلح. يذكر "جالتونج" ، في برنامجه التدريبي " تحول الصراع بالوسائل السلمية " ، إمكانية القيام بعمل إعادة الاعمار المشترك ، والحداد المشترك للخسائر ، وحل النزاعات المشتركة ، من أجل تعزيز المصالحة.

إعادة بناء الثقة مع مرور الوقت

يتم إعادة بناء الثقة المحطمة من خلال التعامل مع سلوك حميد وجدير بالثقة مع مرور الوقت. وتستثنى أعمال الكرم الزائد أو التضحية وأي مبادرات تشير إلى احترام وتقدير ، فبإمكانها أن تتطور بسرعة. ويجب الحفاظ على الوعود ؛ يجب أن تكون هناك شفافية في العملية، لا سيما في حالة انخفاض الثقة. يجب العمل بنوايا صادقة. وتدريجياً ، ستتراكم طبقات الثقة وتتماسك.

الخلاصة

نسأل الله أن يصلح ما بين الإخوة ويفتح صدورهم لبعضهم البعض. فنحن نثق بالشخصية القيادية الخليجية التي تستطيع أن تتغلب على كل الخلافات ولديها الإمكانيات والموارد والإرادة لو جلست جلسة صادقة صريحة. فكل شخص ، حسب علم النفس ، يحب الخير للآخر. ولكن سوء التفاهم والإتصال والبيئة المحيطة هي البلاء المشيطن. قوتنا في وحدة كلمتنا ووحدة بلادنا ، ووحدتنا تنبع من قوة إيماننا وتاريخنا وتراثنا. ومع السلام يمكن أن تستفيد دول الخليج إلى أقصى حد من مواردها ، وتمنح السعادة للجميع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (الأحزاب 70)

المراجع
Galtung, J. (2000) Conflict Transformation by Peaceful Means, United Nations Disaster Management Training Programme, at: www.transcend.org.
Govier, T. (2002) Forgiveness and Revenge, New York: Routledge.