الأحد، 9 يوليو 2017

حافز الإعتماد على الذات في حصار إيران

د. راشد علي السعدي

كانت بلاد فارس حاضنة للعلماء الذين ساهموا للبشرية في علوم الدواء والرياضيات والعلوم والفلسفة من أمثال الخوارزمي وأبو عباس فضل حاتم وأبو موسى وفرحاني وابن سهيل البلخي والفردوسي وأبوبكر الرازي وعبدالرحمن الصوفي وجابر بن حيان وأبوعلي الحسن ابن الهيثم وكمال الدين الفارسي.وهذا غيض من فيض. وقد ترجمت أعمال هؤلاء العلماء والفلاسفة من بلاد فارس إلى اللغة اللاتينية.
بعد إنتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م ، فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها ووسعتها لاحقا لتشمل التعامل مع الشركات. وفي عام 2006م  فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات جديدة بعد رفض إيران تعليق برنامجها لتخصيب اليورانيوم. تضررت ايران من العقوبات التي طالت استثماراتها في النفط والغاز والبتروكيماويات والتعاملات التجارية وشملت أيضا المصرفية والتأمينية. وأدت العقوبات إلى خسائر كبيرة على الشعب الإيراني وإقتصاد الجمهورية الإيرانية.
وبسبب حظر المعدات أو المواد الكيميائية "ذات الاستخدام المزدوج" التي قد يكون لها تطبيق عسكري مثل أجهزة الطرد المركزي التي تصنع اللقاحات ، واجهت ايران صعوبات في تأمين الدواء رغم أنه لم يخضع مع معداته الطبية للعقوبات الدولية. تسبب هذا الأمر في وفاة بعض مرضى السرطان والتصلب المتعدد وذوي مشاكل القلب والثلاسيميا والإيدز. "كيف واجهت إيران هذا الحصار المعقد وتغلبت عليه؟" سيكون هذا السؤال مجال بحثنا.

المواجهة والإعتماد على الذات

تعتبر الحاجة حافزاً للإبداع والإبتكار. فالحصار والمقاطعة الإقتصادية وخطر من تعتبرهم إيران أعداؤها هز كيان الدولة وأصبح خطراً ينذر بفناء وجودها السيادي. كل ذلك ساهم  في تكاتف الجميع  قيادة وشعب نحو السعي خلف خطط تمكنها من البقاء. أما حافز تصدير الثورة الإيرانية فلا يعتبر السبب الرئيسي  لنجاح إيران في كسر عزلتها وتخفيف حدة أزمة العقوبات. واجهت إيران تحديات عزلتها الإقتصادية بعدة استراتيجيات نعتبرها ناجحة وهي:
1.     إقتصاد المقاومة
2.     تشجيع الإبداع والإبتكار
3.     الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص
4.     التعليم والتدريب
5.     الإستثمار في الصناعة
6.     الدبلوماسية العلمية
7.     دور البنوك
8.     زيادة أعداد المتخصصين والخبراء
وسنتناول توضيح كل عامل.

إقتصاد المقاومة

إعتمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانبة استراتيجيات متعددة للخروج من مأزقها . فإنتقلت من إقتصاد الموارد إلى إقتصاد المعرفة أطلق عليه المرشد الأعلى "إقتصاد المقاومة" والذي يدعو إلى تقليل الإعتماد على الواردات والبدء بالإبتكار. فزاد عدد طلاب الجامعات من 100 ألف عام 1979م الى أكثر من أربعة ملايين طالب وطالبة عام 2013م وزادت أعداد الأكاديميين والبحوث الصناعية. ورفعت الحكومة إلتزامها بالتعليم العالي وأنشأت مراكز للبحوث والتكنولوجيا  تعني بالاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية وحل المشاكل. وربطت المصانع بالجامعات. وزاد الإنفاق على البحث العلمي والتطوير. وفي عام 2012م، أصبح لدى إيران 31 حديقة للعلوم والتكنولوجيا تستضيف أكثر من 3.650 شركة تعمل في إيران وتوظف أكثر من 24 ألف شخص.

تشجيع الإبداع والإبتكار

وفقا لمنظمة تسجيل الدولة للأملاك والممتلكات، تم تسجيل ما مجموعه 9.570 اختراعاً وطنياً في إيران خلال عام 2008م. ولدى إيران عدة صناديق لدعم ريادة الأعمال والابتكار ومنها صندوق الابتكار والازدهار التابع للمكتب الرئاسي، والصندوق الوطني لدعم الباحثين والصناعيين، ومعهد نوخبيغان لتطوير التكنولوجيا، وصندوق التكنولوجيا الحيوية، وصندوق التكنولوجيا النانوية، صندوق نوفين لتنمية التكنولوجيا، وصندوق شريف لبحوث تنمية الصادرات والتكنولوجيا، وصندوق دعم الباحثين والتكنولوجيين، وجوائز علمية وتكنولوجية، وصندوق دعم رواد الأعمال الطلابية. بالإضافة الى ستة آلاف صندوق خاص خالي من الفائدة و 3 صناديق لرأس المال الاستثماري.

الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص

كان لدى إيران 930 منطقة صناعية في 2014م، منها 731 جاهزة للتنازل لصالح القطاع الخاص. وتعتزم الحكومة الإيرانية وضع من خمسين الى ستين مجمعا صناعيا جديدا في خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية الخمسية. ولكن تشتكي إيران من ضعف مساهمة القطاع الخاص الذي لا يقدم الدعم في أنشطة التطوير والابتكار التقني. وإذا ما دعم القطاع الخاص بمؤسساته الصغيرة والمتوسطة سيعزز بشكل كبير شبكة الموردين. ولكن تساهم الحكومة الإيرانية في ضعفه بسبب المنافسة الشرسة له من طرف الشركات المملوكة حكومياً وبسبب عدم القدرة على سداد الديون. وهناك عوائق أخرى للتنمية الصناعية التي يواجهها القطاع الخاص منها الافتقار إلى مؤسسات الرقابة والأنظمة المصرفية الغير فعالة والإجراءات البيروقراطية المعقدة والافتقار إلى حماية الملكية الفكرية وضعف التسويق.
وعلى الرغم من هذه المشاكل، حاولت إيران علاج هذه الأسباب فأحرزت تقدما في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، بما في ذلك البتروكيماويات والأدوية والفضاء والدفاع والصناعات الثقيلة. وحتى في مواجهة العقوبات الاقتصادية، بدأت إيران في الظهور كبلد صناعي. وتم تأسيس العديد من الشركات في إيران خلال العقود القليلة الماضية. على سبيل المثال، سيناجن، التي أنشئت في عام 1992م، وهي واحدة من الشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا الحيوية في المنطقة والتي فازت بجوائز إبتكار في مجال بحوث التكنولوجيا الحيوية. في عام 2006، أعلنت شركة بارسيه Parsé Semiconductor Co أنها قد صممت وأنتجت معالج كمبيوتر "32 بت" محلياً لأول مرة. أما شركات البرمجيات فتنمو بسرعة. ففي معرض سيبيت 2006 CeBiT في هانوفر بألمانيا ، عرضت عشر شركات برمجيات إيرانية منتجاتها. كذلك، كشفت المؤسسة الوطنية الإيرانية لألعاب الكمبيوتر عن أول لعبة فيديو على الإنترنت في البلاد في عام 2010م  قادرة على دعم ما يصل إلى 5000 مستخدم في نفس الوقت.

التعليم والتدريب

تطورت إيران بفضل التعليم والتدريب بالرغم من المقاطعات الإقتصادية لها. ومعدل التقدم العلمي يعتبر الأسرع في العالم. وأحرزت تقدما في بحوث الفضاء والعلوم النووية والتطور في المجالات الطبية وأبحاث الخلايا الجذعية والإستنساخ وتقنيات النانو، وعلوم الوراثة، والهندسة الكيميائية، والهندسة الزراعية، وأنظمة الاتصالات بالليزر، وعلوم الكمبيوتر والإلكترونيات، وغيرها.
وكان الفضل للأساتذة والمعلمين الذين غرسوا الهوية الإيرانية الإسلامية في نفوس الطلبة، فمن خلال بيان قدرات البلد والإختراعات العلمية في مجال الطب والفضاء والطاقة وغيرها من المجالات يشعر الطالب بالفخر والإعتزاز بوطنه وبالتالي يسعى بدوره الى ان يكون مساهم في تقدم بلاده وتطورها.

الإستثمار في الصناعة

واصلت ايران ومنذ نجاح ثورتها الاسلامية، الاستثمار الممنهج في الصناعة التي تعتمد على البحوث والتنمية المكثّفة، مما جعل العدو قبل الصديق يشهد لها بالثورة الفكرية والتقدم التكنولوجي التي تحققه البلاد وعلى مختلف المجالات.
رأت القيادة الإيرانية أن المشاركة في الإستثمار والتكنلوجيا والتصدير أهم مجالات التركيز لنقل التقنية والإعتماد على الذات. وعندها لن تتضرع الى الغرب لإستيراد السلاح إنما ستقوم بتصنيعه. فالإستيراد يكلف مبالغ خيالية تستنزف الإقتصاد الوطني بإستمرار بينما التصنيع المحلي تكاليفه أقل بكثير ويتميز بالمرونة والإستدامة. 

الدبلوماسية العلمية

إستفادت إيران من الدبلوماسية العلمية والتقنية التي مهدت لها الطريق لتحول العلم الى قوة. فإستقطبت النخب العلمية وتبادلت الزيارات العلمية في البداية مع الدول الآسيوية. وأظهرت للعالم أنها دولة ديمقراطية تسعى إلى توفير أجواء للتقارب العلمي بينها وبين دول العالم. وركزت على العلاقات العلمية مع الدول الأوروبية والأمريكية. وقامت بتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة والطب والمحاصيل الزراعية وإنشاء مراكز ومختبرات علمية.

دور البنوك

تولت البنوك الايرانية الاولوية في دفع تكاليف مشاريع العلم والمعرفة والتكنولوجيا من صندوق التنمية الوطنية . وبهذا إكتسبت خبرة في توظيف مواردها في مجال تمويل مشاريع العلم والمعرفة. وتحتل ايران الان مرتبة متقدمة جداً بحسب الاحصائيات العلمیة التي تجريها كبريات المؤسسات المتخصصة، سواء من حيث حجم المقالات العلمية العالمية التي تنشر في المجلات المحكمة أو من حيث الاختراعات والتجارب العلمية الفريدة أو أعداد المراكز العلمية وجامعات التعليم العالي، وتفوقت ايران بذلك في ترتيب الانتاج العلمي والتكنولوجي على كل من سويسرا وتركيا.

أعداد كبيرة من المتخصصين والخبراء

وجود قوة كبيرة من المتخصصين والخبراء في ايران حتما سيساهم في تطور وازدهار اقتصاد البلاد. وهذا ما سعت له الدولة وتحقق. قال رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، اللواء هرتسي هليفي: "وصل عدد الطلاب الإيرانيين الذين يلتحقون بمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى حدود السماء".
دعونا الآن نقرأ ونتأمل هذه التطورات العلمية التي وصلت إليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال حقبة بسيطة من الزمن في ظل الحصار الإقتصادي.  

التطورات العلمية في جمهورية إيران الإسلامية

تعتبر العلوم النظرية والحسابية متطورة جدا في إيران. وعلى الرغم من القيود المفروضة على الأموال والمرافق والتعاون الدولي، كان إنتاج العلماء الإيرانيين مثمراً جداً في العديد من المجالات التجريبية مثل الصيدلة والكيمياء الصيدلانية والكيمياء العضوية والبوليمر. وقد اكتسب علماء الفيزياء الحيوية الإيرانيون سمعة دولية، وخاصة علماء الفيزياء الحيوية الجزيئية. وقد تم تصنيع مرفق رنين مغناطيسي نووي عالي المستوى، وأدوات قياس ميكرومترية وأدوات لدراسة القناة البروتينية الأحادية خلال العقدين الماضيين. وقد بدأت هندسة الأنسجة والبحوث المتعلقة بالمواد الحيوية في الظهور في أقسام الفيزياء الحيوية.

وبالنظر إلى هجرة العقول من إيران ، وعلاقتها السياسية السيئة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى، فإن المجتمع العلمي الإيراني لا يزال منتجاً. وتعتبر إيران أن التخلف العلمي هو أحد الأسباب الجذرية للتنمر السياسي والبلطجة العسكرية من قبل الدول المتقدمة على الدول النامية. وتهدف إيران حاليا إلى تحقيق هدف وطني يتمثل في الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات العلمية. ويشارك العديد من العلماء الإيرانيين، جنبا إلى جنب مع الأكاديمية الإيرانية للعلوم الطبية وأكاديمية العلوم في إيران.

العلوم الطبية

يتدفق المرضى الذين يعانون من أنواع مختلفة من السرطان من عُمان والعراق وسوريا ولبنان وافغانستان إلى مركز الدم وزرع النخاع في مستشفى شريعتي للإستفادة من بنك مخزونات الخلايا الجذعية الأكثر تقدما في العالم. ويتوافد أيضاً مرضى الكبد من هذه البلدان الى المركز الأول لزراعة الكبد في مدينة شيراز.
في عام 2012م كان ترتيب إيران 19 في مجال الأبحاث الطبية ووضعت خطة للوصول الى الترتيب العاشر خلال عشر سنوات. لدى إيران أكثر من 400 من مرافق البحوث الطبية. وتنشر أبحاثاً  في الروماتيزم وأمراض الدم وزرع نخاع العظام بإستمرار.  وقد تم تأسيس مركز بحوث أمراض الدم والأورام ونخاع العظم (HORC) التابع لجامعة طهران للعلوم الطبية في مستشفى "شريعتي" في عام 1991م. وعلى الصعيد الدولي، يعد هذا المركز أحد أكبر مراكز زرع نخاع العظم، وقد نفذ عددا كبيرا من عمليات الزراعة الناجحة . وتوجد خدمات متخصصة في أمراض الدم والأورام للأطفال في جميع المدن الكبرى تقريبا تقدم الرعاية للأطفال الذين يعانون من السرطان أو اضطرابات الدم . وإلى جانب أمراض الدم، اجتذب الجهاز الهضمي مؤخرا العديد من طلاب الطب الموهوبين. وأنتج مركز أبحاث أمراض الجهاز الهضمي في جامعة طهران عددا متزايدا من المنشورات العلمية منذ إنشائه.
يرجع تاريخ زراعة الأعضاء في إيران إلى عام 1935م، عندما أجريت أول زراعة للقرنية في في مستشفى فارابي في طهران. قام مركز شيراز نيمازي لزرع الأعضاء، وهو أيضا من المراكز الرائدة في إيران، بأول عملية زرع كلى إيرانية في عام 1967م وأول عملية زرع كبد في عام 1995م. أجريت أول عملية زرع قلب في إيران عام 1993م في تبريز. وكانت أول عملية زرع للرئة في عام 2001م، وأجريت أول عملية زرع القلب والرئة معاً في عام 2002م، في جامعة طهران. طورت إيران أول رئة اصطناعية في عام 2009م للانضمام إلى خمسة بلدان أخرى في العالم تمتلك هذه التكنولوجيا. حاليا، يتم إجراء عمليات زرع الكلى والكبد والقلب بشكل روتيني في إيران. وتحتل إيران المرتبة الخامسة في العالم في عمليات زراعة الكلى. كان معدل البقاء على قيد الحياة لزرع الكلى لمدة 3 سنوات 92.9٪. وقد أقر البرلمان عام 2000م قانون زرع الأعضاء عند الموت الدماغي، أعقبه إنشاء الشبكة الإيرانية لزراعة الأعضاء. وقد ساعد هذا العمل على توسيع برامج القلب والرئة والكبد.
وأخذ علم الأعصاب في الظهور أيضا في إيران. فقد تم إنشاء عدد من برامج الدكتوراه في علم الأعصاب الإدراكي والحسابي في البلاد خلال العقود الأخيرة. اخترع جراحون إيرانيون كانوا يعالجون المصابين الإيرانيين أثناء الحرب الإيرانية العراقية علاجا جديدا للجراحة العصبية للمرضى المصابين بجروح في الدماغ، غطت على التقنيات الأمريكية السائدة ، وقد ساعد هذا الإجراء الجراحي الجديد في تخفيض معدلات الوفاة للمرضى المصابين من 55٪ عام 1980م إلى 20٪ عام 2010م. وتحتل إيران المرتبة الأولى في الشرق الأوسط والمنطقة في طب العيون.

التكنولوجيا الحيوية

يعتبر قطاع التكنولوجيا الحيوية لإيران واحداً من الأكثر تقدما في العالم النامي. ويقود معهد الرازي للأمصال واللقاحات ومعهد باستور في إيران مرافق إقليمية رائدة في مجال تطوير وتصنيع اللقاحات. قام معهد "رازي" الايراني بتصميم أجهزة الطرد المركزي فائق السرعة وإستخدامها في مجال انتاج الأدوية واللقاحات. في يناير 1997م، تم إنشاء جمعية التكنولوجيا الحيوية الإيرانية للإشراف على بحوث التكنولوجيا الحيوية في إيران. 
وقد نجحت البحوث الزراعية في توفير أصناف عالية الجودة وانتجت العديد من النباتات المعدلة وراثياً في المختبرات مثل الذرة المقاومة للحشرات. كما استنسخ معهد رويان أول الأغنام في إيران. وتعتبر أبحاث الخلايا الجذعية في إيران هي من بين أفضل 10 أبحاث في العالم.

الفيزياء النووية 

حققت إيران بعض النجاحات الهامة في مجال التكنولوجيا النووية خلال العقود الأخيرة، وخاصة في مجال الطب النووي. وهي الآن تتحكم بدورة كاملة لإنتاج الوقود النووي وتعتبر ضمن 14 دولة تمتلك تكنولوجيا نووية.

علوم الحاسب الآلي والالكترونيات والروبوتات

تصر إيران على ضرورة استخدام الأنظمة التشغيلية المحلية وتجنب استخدام الأنظمة التشغيلية الأجنبية مثل "الويندوز" و"اللينوكس" في مجال صناعة الاسلحة من منظور أمني. ولديها مدارس علمية ثانوية متميزة في التصميم، الروبوتات، والأتمتة. يخطط الباحثون لتطوير قدرات الكلام والرؤية ومزيد من الذكاء لهذا الروبوت والانسان الآلي الذي إستخدم ايضاً في صناعة السيارات. وإفتتحت مركز أبحاث المعالجات وأنتجت جهاز كمبيوتر فائق السرعة. تم إطلاق نظام لينوكس SUSE المستند إلى لينوكس من قبل معهد أبحاث الفضاء الإيراني. 

الكيمياء وتكنولوجيا النانو

وقد انطلقت البحوث في مجال تكنولوجيا النانو في إيران منذ تأسيس مجلس مبادرة التكنولوجيا النانوية في عام 2002. ويحدد المجلس السياسات العامة لتطوير تكنولوجيا النانو وينسق تنفيذها. وهي توفر التسهيلات وتخلق الأسواق وتساعد القطاع الخاص على تطوير أنشطة البحث والتطوير ذات الصلة. في العقد الماضي، تم تأسيس 143 شركة تكنولوجيا النانو في ثمانية صناعات. أكثر من ربع هذه موجودة في صناعة الرعاية الصحية، مقارنة مع 3٪ فقط في صناعة السيارات. وحاليا تتخصص خمسة مراكز بحثية في مجال تكنولوجيا النانو، بما في ذلك مركز أبحاث التكنولوجيا النانوية في جامعة شريف، الذي أنشأ أول برنامج للدكتوراه في إيران في مجال علم النانو وتكنولوجيا النانو. ولقد نجح الباحثون الايرانيون في جامعة "شهيد بهشتي" في انتاج جسيمات نانوية معدنية ذات خصائص ضوئية قابلة للاستخدام في علم المواد والليزر وتقنية المعلومات.

الطيران والفضاء 

أطلقت شركة "سفير" بنجاح القمر الصناعي "أوميد" في المدار في فبراير 2009م وتخطط ايران إرسال أول رائد فضاء إيراني إلى الفضاء على متن مكوك إيراني بحلول عام 2019م. في عام 2013م، قامت إيران ببناء أول نفق رياح بسرعة تفوق سرعة الصوت لاختبار الصواريخ وإجراء أبحاث الفضاء. وتعتبر إيران الدولة الثامنة القادرة على تصنيع المحركات النفاثة. 

علم الفلك

كشفت إيران عن أكبر تليسكوب مصنوع محليا يسمى "تارا" ومركز استكشافي وبرنامج تدريبي في خطة لتأسيس قاعدة فلكية. وفي عام 2016م، كشفت إيران عن تليسكوب بصري جديد لمراقبة الأجسام السماوية. وسوف يستخدم للفهم والتنبؤ بالمواقع للأجرام والأقمار الطبيعية أو الصناعية في مدارها حول الأرض. 

الطاقة 

وقد حققت إيران الخبرة الفنية لإنشاء محطات توليد الطاقة الكهرومائية والغاز والدورة المركبة. وهي من بين أربعة دول العالم القادرة على تصنيع توربينات الغاز المتقدمة ، وتستطيع إنتاج جميع الأجزاء اللازمة لمصافي الغاز. وتعتبر الآن ثالث بلد في العالم قام بتطوير تكنولوجيا الغاز إلى الحالة السائلة. وتنتج إيران 70٪ من معداتها الصناعية محليا بما في ذلك توربينات مختلفة ومضخات ومحفزات ومصافي وناقلات نفط وحفارات نفطية ومنصات بحرية وأدوات استكشاف. 
استبدلت إيران غاز الكلور الخطير على الصحة بالملح في عملية تطهير المياه وتنقيتها مما قلل من مخاطر الكلور، وهي وسيلة سهلة ومنخفضة التكلفة لتوفير المياه النظيفة للشرب والزراعة والصناعة. وأوضح الباحث أن المواد المستهلكة هو جهاز التحليل الكهربائي والملح وتيار الكهرباء حيث تم تعديل كمية الملح نظرا إلى كمية المياه بصورة ذكية ثم تمرر في مفاعل الجهاز وبعد اجتياز عملية الكهرباء والتحليل الكهربائي ،  يتم إخراج المنتج النهائي من الجهاز وتخزينه في خزان إذ يستخدم لتطهير شبكة المياه أو الخزان أو حوض السباحة.

التسلح:

تمتلك إيران التكنولوجيا لإطلاق صواريخ فائقة السرعة والمضادة للغواصات التي يمكن أن تسير بسرعة 100 متر في الثانية تحت الماء، مما يجعلها في المرتبة الثانية بعد روسيا في امتلاك التكنولوجيا. وهي من بين الدول الخمس في العالم التي قامت بتطوير الذخيرة باستخدام تقنية استهداف الليزر. وتمتلك إيران المعرفة التكنولوجية المطلوبة لتصميم وصناعة المركبات الجوية بدون طيار مزودة بنظام المسح والاستطلاع. وتصنف إيران من بين 12 دولة لديها تكنولوجيا الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي المتنقلة المتقدمة. على مدى السنوات الماضية، حققت إيران اختراقات هامة في قطاعها الدفاعي وحققت الاكتفاء الذاتي في إنتاج معدات وأنظمة عسكرية مهمة. ومنذ عام 1992م، قامت بإنتاج الدبابات الخاصة بها، وناقلات الأفراد المدرعة، والرادارات المتطورة، والصواريخ الموجهة، والغواصات، والطائرات المقاتلة. كذلك قامت بصناعة شاشات العرض المتعددة الوظائف MFD للطائرات. كما نقلت تقنية صناعة الصواريخ مافوق الطيفية او الاستشعار عن بعد. وتفتخر بصناعة صاروخ فجر 5 الموجه، وصواريخ منظومة ميثاق 3 المحمولة على الكتف، ونظام اطلاق القنابل اليدوية بعيار 40 ملم وعتاد متطور، والسلاح الفردي بعيار 45×5.56 بالإضافة الى مسدس جديد محلي الصنع وخطوط انتاج هذه الأسلحة.

التعاون العلمي

وتستضيف إيران سنويا مهرجانات علمية دولية منها مهرجان خوارزمي الدولي في العلوم الأساسية ومهرجان الرازي السنوي لبحوث العلوم الطبية. وهناك أيضا تعاون مستمر في مجال البحث والتطوير بين الشركات الكبيرة المملوكة للدولة والجامعات في إيران.
وعلى الرغم من أن العقوبات تسببت في حدوث تحول في الشركاء التجاريين الإيرانيين من الغرب إلى الشرق، فإن التعاون العلمي ظل موجها نحو الغرب. بين عامي 2008 و 2014، كان أكبر شركاء إيران للتعاون العلمي وهم الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا، وبهذا الترتيب. شارك العلماء الإيرانيون في إعداد ما يقرب من ضعف عدد المقالات مع نظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية كما هو الحال مع أقرب المتعاونين في كندا والمملكة المتحدة تعاون العلماء الإيرانيون والأمريكيون على عدد من المشاريع. 
 وقد قدمت إيران طلبا رسميا للمشاركة في مشروع يقوم ببناء مفاعل نووي حراري نووي دولي في فرنسا بحلول عام 2018. 
وتستضيف إيران العديد من مراكز البحوث الدولية مثل المركز الإقليمي لحديقة العلوم وتطوير حاضنة التكنولوجيا (اليونسكو 2010م)، والمركز الدولي لتكنولوجيا النانو (اليونيدو 2012م) والمركز الإقليمي للتربية والبحوث لعلم المحيطات لغربي آسيا (اليونسكو).
وتعزز إيران تعاونها العلمي مع البلدان النامية. وهي أفغانستان وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وباكستان وطاجيكستان وتركيا وتركمانستان وأوزبكستان. وهي عضو نشط في الكومستيك وتتعاون في مشاريعها الدولية. ويشارك المهندسون الإيرانيون في تصميم وبناء أول مسرع للجسيمات الإقليمية في الشرق الأوسط في الأردن، يسمى سيزام.
ومنذ رفع العقوبات الدولية، بدأ الطلاب والأكاديميين والباحثين والعلماء الايرانيين بزيارة المواقع العلمية الدولية. وتقوم ايران اليوم بتطوير روابط علمية وتربوية مع الكويت وسويسرا وايطاليا والمانيا والصين وروسيا.

الدرس الأخير

قدمت لنا إيران دروساً وعبر في كيفية الإعتماد على الذات ككيان ودولة نبعت من الحاجة لتوفير مستلزمات الحياة من أجل البقاء. وإذا ما أردنا أن نعتمد على ذاتنا كإيران يجب أن نعيش بمبادئ الإعتماد على الذات ونلتزم بها. ومن أهم هذه المبادئ الإيمان بعقيدتنا ودورنا في هذه الحياة والإلتزام بمسؤولياتنا في هذا المجتمع وإستغلال الوقت بحكمة. علينا أن نقوم بحل المشاكل التي تعترضنا ونرشد النفقات ونتعاون ونتفاهم ونثابر في التحصيل العلمي والعمل والإنتاج. نعمل بأخلاقيات المهنة وبامانة وإستقامة.
ما حك جلدك مثل ظفرك
فَتَوَلَّ أنْتَ جَميعَ أمركْ
وإذا قصدْتَ لحاجَة
فاقْصِدْ لمعترفٍ بقدْرِكْ
الشافعي
  

المراجع

الاثنين، 3 يوليو 2017

رأب الصدع الخليجي


د. راشد علي السعدي

يعز علينا ونتألم عندما نشاهد تدهور حالة الخلاف الخليجي ووصولها إلى حالة شقاق تصدعت معه أركان مجتمعنا الخليجي الذي "تعاون" بالأمس ولكن إنهار صرحه اليوم. ويؤلمنا أكثر أن نكتشف العلاقة الهشة بين قادة دول مجلس التعاون والتواصل "الغير خليجي" بينهم وغياب صراحة الحديث. من لم يأسف ويتحسر ويندى جبينه للتراشق اللاأخلاقي الذي وصل إلى الشعوب الخليجية؟ من تخيل أن تصل شرور الإنتقام إلى حصار شعب خليجي من قبل أشقاؤه في شهر فضيل ، وحرمانه من التواصل مع أرحامه وذويه ، وخصوصا في عيد الفطر؟
لنرجع للماضي برهةً نكتشف العلاقات الخليجية قبل قرنين من الزمان وكيف كانت. لقد عصفت بشعوب المنطقة حضارات مختلفة متنازعة فارسية وعثمانية وبريطانية لم تكل ولم تهدأ في مناوشاتها ومشاكلها وحروبها وتحالفاتها وتغيير ولاءاتها. لقد تعرضت دول الخليج للكثير من التجاذبات السياسية والغزوات وكان يرجع السبب دائماً إلى غياب الوحدة بين القبائل. ولكن ما إن توحدت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإلتفت قبائل دولة قطر حول مؤسسها ، حتى أصبحت قوة وتدرجت بالإستقرار. وبعد إكتشاف النفط ، تسارعت عجلة التنمية وأحدثت تطوراً هائلاً وصلت إلى مصاف الدول المتقدمة في الإقتصاد والبناء والتسليح ونعمت بالإستقرار لعقود من الزمان . لم يتواصل تكاملها أكثر فتوقف عند "لكم دينكم ولي دين". لم تتوحد أنظمتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وتنافس الأخوة الأعداء وإستعانوا بالمستعمر الطامع. وها هي تحالفاتها تتفكك من جديد.
ربما كانت الصورة القاتمة أعلاه توحي للتشاؤم ولكنها لن تكون كذلك غداً. ينبع التشاؤم من صراع الأخوة وعدم قدرتهم في الوقت الراهن على التغير بسرعة للوصول إلى مرحلة التواصل الصريح والمكاشفة والموضوعية في الطرح البناء وتقبل النقد. بالتأكيد دول الخليج لن تتضعضع وإن إستمرت الخلافات أعواماً ، لأن التاريخ يعلمنا أن شعب الخليج لديه عمق ثقافي موحد يستحيل أن تتغلغل الخلافات خلال طيات تكوينه الدينية والثقافية المتعددة.
أحاول في هذه الورقة أن أقدم موضوعاً لرأب التصدع الخليجي وهو موضوع غاية في الأهمية يتطلب عناية في القراءة والتحليل وسأحاول أن أتجنب الخوض فيما لا أعلمه من خبايا الأمور بين القادة الخليجيين. لذا ، سأطرح خطوات للمصالحة ، من منظور وصفي وتحليلي ، تجنبنا تداعيات كبيرة وتختصر علينا الوقت. وبكل بساطة فإن الموضوع هو موضوع "إدارة صراع". ولقد كتبت عن إدارة الصراع في ورقة سابقة (هنا). وما يزيد على ما ذكرت في الورقة السابقة هو طرح خطوات إجرائية تقوم بها دول الصراع لتفادي تداعياته وحل المشاكل العالقة والنظر للمستقبل.

تجارب الدول 

كانت خصومة فرنسا وألمانيا من الخصومات التاريخية التي خاضت ثلاث حروب كارثية في الفترة بين 1870م و 1945م. ومع ذلك، في عهد ما بعد الحرب، تطور صراعها وعدائها بشكل كبير إلى شراكة وتعاون متبادلين. وخلافا للحالة الفرنسية الألمانية، لا تزال العلاقات بين اليابان وجمهورية كوريا متقلبة بسبب انعدام الثقة والعداوة كامنة بينهما نابعة من مخاوف الأمن والاقتصاد. ومن دمشق إلى رواندا وجنوب أفريقيا، تعلمنا درسا صعباً أنه في حالات الصراع ، يجب أن توضع المصالحة في الصدارة عندما نسعى لتحقيق العدالة.
وتكمن صعوبة التوافق في مدى صعوبة العثور على نقطة البداية للمصالحة والتسامح عندما يكون سبب العداء الرئيسي غير مرئي. ولكن إن إستطعنا الكشف عن أسباب العداء ، ربما سنناضل بشكل مؤلم مع هذه الخلافات ، ولكننا على الأقل نعرف أين نقف عندما تكون مسببات خلافاتنا وعداواتنا واضحة وعلنية.
أما إن تحول الصراع إلى عنف إرهابي فقد خرج عن نطاق ممارسات حل النزاعات، مثل منع الصراعات ، وصنع السلام عن طريق المفاوضات والحوار ، وبناء السلام والتوافق. فالإرهاب شكل من أشكال العنف الذي يعتقد بعض صناع القرار المهيمنين على سياسات العالم أنه لا يمكن التصدي له إلا من خلال القانون أو القوة العسكرية ، رغم أن غيرهم من قادة الدول يعتقدون أن الإرهاب له جذور سياسية وإقتصادية وإجتماعية تحتاج الى مداولة. ونأمل أن لا نسير على هذا الطريق.

خطوات المصالحة

كبشر ، لنا علاقات إجتماعية مكثفة تعتمد على علاقات جيدة مع من حولنا. لكن أهدافنا تتعارض بإستمرار مع أهداف الآخرين. وعندما نسعى لتحقيق أهدافنا نلحق الضرر ببعضنا البعض إما بكلمات جارحة أو عنف جسدي أو إبتزاز أو غش ، وهلم جرا. وإن كان ذلك على مستوى مجموعات أو دولة يكون التأثير مضاعفاً ، رغم أننا نحتاج أن نتعايش جنبا الى جنب. فكيف نستعيد العلاقة الجيدة؟
أولى خطوات المصالحة هي الكشف عن حقيقة ما يحدث بصراحة. وعندما نستعرض الحقائق والأدلة يتوقع أن يعترف الجاني بفعلته والضرر الذي تسبب به. وتأتي بعدها خطوة الإعتذار للضحية. عندها يمكن أن يتسامح الطرفان وتتحق العدالة بشكل ما. ولا تنتهي عند هذا الحد ولكن يخطط لمنع تكرار ما حدث. ثم تستأنف الجوانب البناءة للعلاقة المفقودة. ومع الوقت فقط ستبنى الثقة. دعونا نشرحها.

الكشف عن الحقيقة

إن كشف الحقيقة عن الأضرار قد يكون بسيطا جداً ، أو صعبا جداً ومثير للجدل. هناك حاجة إلى فهم من فعل هذا ، ولأي أسباب ، مع النوايا. في حالات بسيطة ، يكون الضرر الناجم عرضي ، وليس مقصودا ، وهو كل ما يتطلب معرفته لتحقيق المصالحة. وفي الحالات المعقدة، يمكن تبيانها بالتفصيل المتسلسل ، ​​مع مراعاة تأثير كل حدث وتوضيح السلوك الضار. يجب تجنب" لعبة اللوم. "لعبة اللوم" تفترض أن المسؤولية عن الضرر تقع تماما على طرف واحد ، وسوف يرى الطرف الآخر الوضع في الاتجاه المعاكس. ومن المفيد أن يوضع المتنازعين على كل جانب من جوانب الحقيقة وتبدأ محاولة تسجيل الروايات المتضاربة بين الجانبين وسيكون من الممكن في نهاية المطاف أن يُكتب تاريخ موحد للنزاع.

الإعتراف

يجب أن يكون هناك اعتراف مسؤول وصادق من الطرف الجاني للضحية عن الضرر الذي تسبب به ، أو ساهم في الأسباب التي قادت إليه. ويجب أن يتضمن الإقرار أكثر من الحقائق الموضوعية للضرر، ليشمل أيضا المعنى العاطفي للضرر. وهذا الأمر غاية في الأهمية للضحية لأنه يعكس حقيقة معاناته، وحقيقة أن الآن هناك شخص ما يتحمل المسؤولية عن ذلك. إكتشف الأطباء أن الكثير من القضايا القانونية المرفوعة ضدهم في المحاكم كانت بسبب الإهمال والأخطاء ، لأنهم لم يعترفوا عن الخطأ ، وبسبب نتيجة المعاناة التي سببها هذا الخطأ ، أو الإهمال لهم ولأقربائهم ، وهو أكثر أهمية بالنسبة لهم من التعويض المالي.

الإعتذار

يجب أن يكون هناك اعتذار صادق من الجاني للضحية عن الضرر الذي لحق به. يجب أن تحتوي على المعاني التالية:
 "أنا أعتذر عما فعلته. وأتمنى لو لم يحدث ، ولم أتمنى يوماً أن تعاني من هذا الضرر. وإن شاء الله لن يحدث ذلك أبداً".
في اعتذار الجاني بهذه الصيغة فإنه يقر أنه تجاوز معايير السلوك البشري وها هو يعيدها ثانية. ويعترف بالدَين الأخلاقي للضحية. وهنا بداية بناء الثقة. هذا الحِمل ليس صغيرا ويتطلب شعوراً صادقا بحل الخلاف وفتح صفحة تعاون وشراكة جديدة مبنية على القيم والمعايير الأخلاقية للعلاقات البشرية. أما من جانب الضحية ، فيمكنه قبول الإعتذار أو رفضه. ومن المرجح أن يكون الرفض إن بدى أن الاعتذار غير صادق أو يتضمن اعترافا غير كاف بالضرر.

التسامح

غالبا ما يتبع الاعتذار، أو يعني ضمنا، طلب التسامح. والتسامح أو الغفران عملية داخلية معقدة للضحية ، تنطوي على الانتقال من الغضب والاستياء ، والاعتقاد بأن الدَين الأخلاقي مستحق من الجاني، والرغبة في الانتقام ، إلى وضع تخفيف الغضب وإنهاؤه ، وإلغاء الديون ، ونبذ الانتقام ، والمضي قدما في العلاقة ، وإسقاط أي إشارة إلى الأخطاء التي ارتكبت سابقا. فالعديد من الذين يمرون بهذه العملية يختبرونها على أنها تحرر بمعنى التخلص من أعباء الغضب أو الاستياء أو الأوهام الانتقامية. وفي حالات الضرر الخطيرة، فإن وصول الضحية إلى حالة الغفران يفترِض أن الضرر النشط قد انتهى وقد يتطلب تصورا بأن بعض العدالة قد تمت. ننتقل الآن إلى هذا الموضوع الصعب.

العدالة

مفاهيم العدالة هي أساسية جدا لأدائنا الأخلاقي ولكن ما هي العدالة؟ هل هي التوزيع العادل للأشياء الجيدة والسيئة؟ هل تعتبر شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ مفاهيم حقوق الإنسان العالمية تتحدى هذه المعتقدات. وتقول لا ينبغي توزيع "الأمور الجيدة" فحسب ، بل ينبغي أيضا توزيع "الأمور السيئة" على نحو عادل ، مثل الضرائب في المجتمعات ، والأعمال المنزلية في بيت الأسرة. في العلاقات الشخصية ، يبدو أن هناك فكرة تقريبية عن المعاملة بالمثل. أنت تدعوني لتناول العشاء ، سأدعوك يوماً ما. كنت تقترض المال مني ، إذاً لدي الحق أن أطلب منك قرض في المستقبل. في هذه "السيئات" الخطيرة التي ننظر فيها هنا ، عندما يلحق الضرر لطرف واحد على حساب الآخر، نميل إلى الشعور بضرورة أن يكون هناك بعض التوازن: يجب أن يعاني الجاني بعضاً من الأمور السيئة. لا ينبغي له أن يتملص منها ويفلت من العقاب. وعقابه يأخذ شكل الانتقام الذي يعتبر إيذاءاً متعمداً من الضرر الذي تلقاه الجاني.
يشير "جوفييه" ، مؤلف كتاب التسامح والإنتقام ، إلى مشكلة أخلاقية أساسية جدا مع الانتقام. استنادا إلى أخلاقيات احترام الأشخاص وعدم استخدام الأشخاص كأدوات لرضانا، يصبح الانتقام مرفوضا. إنه الضرر المتعمد لتحقيق الرضا الشخصي الذي يزرع الشر في أنفسنا. عندها ، يصبح المنتقم هو الجاني. أما فيما يتعلق بحجة الردع - فهناك شيء منافٍ للعقل حولها. فمن المرجح أن تطبق ثقافة الانتقام في كلا الاتجاهين. ويبدو أن فعل الانتقام قد يثير انتقاما آخر ، إلا إذا كان التفاضل في السلطة يجعل ذلك خطرا للغاية على الطرف الآخر. في هذه الحالة ، سيكبت الطرف الأضعف مسألة الاستياء التي تحرقه كمداً وسينتظر ، وربما إنتظر لقرون ، في انتظار تغير الظروف. وإذا وصلنا لهذه الحالة فقد وصلنا لحالة تدميرية عميقة. وسيُقتل الأبرياء، ولن تعالج جذور المشكلة أبدا ، وسينخرط الضحية بعمليات الإنتقام القادمة ، والتي تليها. وسيعيش آخر المنتقمين خوفا وتحسباً من أي هجوم. ولا يمكن تحقيق المصالحة. حدث هذا مع العائلات الألبانية منذ بضع سنوات. اقترح عليهم "يوهان غالتونغ" بنجاح أن تنضم العائلات المتقاتلة ضد عدو مشترك وهو نظام الخلافات الدموية نفسه.

التخطيط لمنع التكرار

وإذا تم تقديم الإعتذار ، يكون الوعد بعدم التكرار صريح أو ضمني. ولكن ، هل يكفي هذا للضحية التي تعرضت لأذى خطير؟ قد يكون الوعد غير صادق ، ويمكن أن يُقدَم بشكل جيد بدون خطط جادة لتطبيقه ، وربما كان هناك إعتذار بدون فهم كاف للعوامل التي تسببت بوقوع الضرر في المقام الأول. ويحق للضحية أن يقرر عدم المخاطرة بالتكرار  عندما يشعر بأن المحاولات قد وصلت إلى الحد الذي لا يمكن التصالح مع علاقة غير مرغوب فيها.
في المقابل ، يمكن أن تحمي الإعتذار برسائل المصالحة ، وبدء مشاريع الاستثمار التي تشير إلى العدالة. وسيكون تعليم السلام والمصالحة في المدارس إسهاما بناءً. وقد تكون إشارات التقييم الإيجابي والإطراء للعناصر السكانية المتنوعة مفيدة. وقد يلزم التدقيق في جوانب مؤسسات الدولة للتأكد من عدم مساهمتها في العنف، وتتخذ التدابير لتنقيحها.

استئناف الجوانب البناءة للعلاقة

ربما يكون استئناف تبادل السلع والخدمات هو أكثر الطرق وضوحا في التعبير عن الترابط الأول في علاقات الصلح. يذكر "جالتونج" ، في برنامجه التدريبي " تحول الصراع بالوسائل السلمية " ، إمكانية القيام بعمل إعادة الاعمار المشترك ، والحداد المشترك للخسائر ، وحل النزاعات المشتركة ، من أجل تعزيز المصالحة.

إعادة بناء الثقة مع مرور الوقت

يتم إعادة بناء الثقة المحطمة من خلال التعامل مع سلوك حميد وجدير بالثقة مع مرور الوقت. وتستثنى أعمال الكرم الزائد أو التضحية وأي مبادرات تشير إلى احترام وتقدير ، فبإمكانها أن تتطور بسرعة. ويجب الحفاظ على الوعود ؛ يجب أن تكون هناك شفافية في العملية، لا سيما في حالة انخفاض الثقة. يجب العمل بنوايا صادقة. وتدريجياً ، ستتراكم طبقات الثقة وتتماسك.

الخلاصة

نسأل الله أن يصلح ما بين الإخوة ويفتح صدورهم لبعضهم البعض. فنحن نثق بالشخصية القيادية الخليجية التي تستطيع أن تتغلب على كل الخلافات ولديها الإمكانيات والموارد والإرادة لو جلست جلسة صادقة صريحة. فكل شخص ، حسب علم النفس ، يحب الخير للآخر. ولكن سوء التفاهم والإتصال والبيئة المحيطة هي البلاء المشيطن. قوتنا في وحدة كلمتنا ووحدة بلادنا ، ووحدتنا تنبع من قوة إيماننا وتاريخنا وتراثنا. ومع السلام يمكن أن تستفيد دول الخليج إلى أقصى حد من مواردها ، وتمنح السعادة للجميع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (الأحزاب 70)

المراجع
Galtung, J. (2000) Conflict Transformation by Peaceful Means, United Nations Disaster Management Training Programme, at: www.transcend.org.
Govier, T. (2002) Forgiveness and Revenge, New York: Routledge.

الثلاثاء، 7 فبراير 2017

إستراتيجية الأمن والدفاع

إستراتيجية الأمن والدفاع
تفرض التحديات الجديدة على الدول أن تستمر في بناء مصادر قوتها وتأثيرها الدولي والمساهمة في بناء نظام عالمي قادر على مواجهة هذه التحديات. ومن هذه التحديات الكثير المعقد لتشابكه وعلاقة كل معضلة بمعاضل أخرى. منها على سبيل المثال ما يتعلق ويؤثر تأثيراً مباشراً مثل صراعات دول الجوار وتأمين المصالح الوطنية المتنازع عليها ومواجهة الأنظمة العالمية التي تحاول إبتزاز الدول. أيضا هناك تحديات أمن المعلومات وما يتاح منها على الإنترنت والأمن الغذائي والمائي ورفع السعة الاستيعابية للرأسمال البشري وتأمين المصادر الطبيعية للدولة. كما أن هناك تحديات إلتزمت بها الدول عالميا للحفاظ على السلام العالمي وتحقيق العدالة الإجتماعية ومنع انتشار الاسلحة النووية ومحاربة التطرف والإرهاب والحد من انتشار ثاني اكسيد الكربون. وأخيرا واجبات الدولة الاقتصادية والتعامل مع عدم استقرار الاقتصاد العالمي والازمات المالية.
مواجهة أي دولة لهذه التحديات ليس بالأمر اليسير. ولكي تنجح يتطلب أن تبني إستراتيجية أمنية ودفاعية واضحة وتربط مواردها ومصادر قوتها في حلقات متكاملة وتعزز قوتها العسكرية. ومن بين هذه الموارد يعتبر المصدر البشري للدولة أقوى الروافد التي تستطيع الدولة تطويرها وتوظيفها لتحقيق استراتيجيتها الأمنية.
ولكي تنفذ الدولة ذلك بطريقة مثالية فإن أول خطوة هي فحص مفصلي للأمن الوطني الرئيسي ومنها وثائق الشؤون الدفاعية والأجنبية لمعرفة غاياتها وتبعاتها. ثم التعرف على القصور السياسي والإقتصادي للدفاع. بعدها نستطيع أن نحدد مهام الدفاع ومستوى الطموح المطلوب لنضع مهمة الدفاع وأولوياته. وفي بحثنا للتعرف على النماذج والأطر التي إستخدمتها الدول المتقدمة نجد مفاهيم متداخلة مثل استراتيجية الأمن الوطني وإستراتيجية الدفاع الوطنية والإستراتيجية العسكرية الوطنية ومفهوم العمليات المشتركة. كذلك تطلق بعض الدول عليها "الرؤية الأمنية والدفاعية" أو تضع خطط طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى. بعض الدول يستخدم أساليب تقييم يراها مناسبة مثل احدى الأساليب التالية أو أكثر: تقييم من أعلى لأسفل أو تقييم مفهوم المصادر النادرة او بالمفهوم التاريخي او تقييم القدرات الدفاعية أو التقييم بوضع السيناريوهات أو تقييم التهديد أو التقييم بمفهوم أفضل التقنيات الممكن إنتاجها أو تقييم يستند على تجنب المجازفات وأخير التخطيط التصاعدي. أما حجم القوة فيمكن تطويره بطرق متعددة. من هذه الطرق تبدأ الدولة بتحليل البيئة ثم تحدد السياسة وبعدها تطور السيناريوهات المحتملة ثم تقترح تقدير لحجم القوة والجدوى الإقتصادية وتتبعها بتنظيم القوة وتكلفة هذا التنظيم ومجازفاته وجدواه وأخيراً تنظم القوة.
في هذا البحث سنتطرق الى تسلسل الإستراتيجية تاريخيا وسنبدأ بعرض الثورة التي حدثت في مفاهيم الإستراتيجية العسكرية وإبداعات القادة خلال الحروب، بعدها سنعرض نظريات علم النفس والإجتماع في أسباب الحرب لنحدد الكيفية التي يوظف فيها المفكر الإستراتيجي أو القائد العسكري أو السياسي أفضل الخطط لمعالجة المواقف التي ستواجهه مستقبلاً من أجل تحقيق مصالح دولته. بعدها سنقدم تعاريف للإستراتيجية ونختتم بكيفية استخدام هذه الاستراتيجية لخدمة الدولة.  

ثورة مفاهيم في الاستراتيجية العسكرية وإبداعات القادة
إبداعات القادة في تطوير الإستراتيجية
تتكون الاستراتيجية العسكرية عند المسلمين من عدة مفاهيم وأساليب وأفكار وردت في نصوص الآيات القرآنية. فلا ينظر القرآن الكريم الى الحرب بمنظور المصالح الوطنية إنما بمفهوم العدالة والإيمان والسلام العالمي. فالعلاقات بين الدول يجب أن يعمها السلام ولا تشن الحرب إلا لإرساء العدالة والقانون والحفاظ على المجتمع الإنساني. أما في إستراتيجية الحرب فينظر إليها بكسر إرادة العدو في شن العدوان كما جاء بالقرآن الكريم: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ"[1] وكذلك : "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها."[2] أيضاً قوله تعالى: "ادخلوا في السلم كافة."[3]
ركزت استراتيجية جنكيز خان على خفة وسرعة الحركة والحرب النفسية في إرهاب الخصم. كان لكل مقاتل في جيشه خمسة خيول بين حصان وفرس. ينتقل عن طريقها بسرعة ويتغذى منها ومن لبنها فهي تمثل امدادا لوجستياً مستداماً سريع الحركة.[4] هذه السرعة لم يتغلب عليها احد الا في القرن العشرين.
أما نابليون بونابرت فركز على توظيف المواطنين الفرنسيين ووضع تنظيم يخطط لأمن الدولة وأوجد نظام الخدمة العسكرية لحشد مقاتلين لا ينقطع ووظف مواطنين لصناعات الاسلحة والذخائر والثياب والخيام والمستشفيات وجمع الشيوخ والعجائز للتجمع من أجل تشجيع المقاتلين ورفع المعنويات. أما استراتيجياته في الميدان فلم يكن هو من اكتشفها ولكن طبق ووظف مبادئ القتال التي درسها بإبداع. فركزت أساسا على خفة الحركة وقهر خصمه في معركة واحدة. فيدخل وسط مركز قوات العدو يضعفها أو يثبتها ويأتي الإحتياط ليجهز في كل مرة على مراكز قوة العدو في جوانبه وأجنحته. أما أسلوبه الثاني فهو قطع قوات خصمه من الامدادات والاتصالات وعندها يسهل التعامل معه وتدميره نهائيا كما فعل مع بروسيا. لم يكن اسلوبه وحشي فقط فقد كان يخطط لكل التفاصيل واستطاع ان يجند جيوشا كبيرة وفي نفس الوقت اكساب هذه الجيوش قادة على نفس المستوى من التنظيم والفكر العسكري النابليوني. فقد كانت تنظم في فرق مستقلة قادرة على استخدام مرونة الحركة لمناورة الخصم والهجوم على عدة أهداف في نفس الوقت وكما يقول نابليون: هناك الكثير من جنرالات أوروبا الجيدين ولكنهم يرون أشياء كثيرة في نفس الوقت. أما أنا فأرى هدفاً واحداً وهو الجسم الرئيسي للخصم فأحاول أن أحطمه والبقية تحل نفسها." لم تكن هذه الاستراتيجيات وحدها التي تميز بها فلقد استخدم الخداع في فصل النمساويين عن الجيش الروسي.
أثّر نابليون على كلاوزفيتز البروسي الأصل الذي أصدر كتابه "حول الحرب" والذي يعتبر أساس للدراسات في كليات القيادة والأركان العسكرية الحديثة. ونظراً لخلفيته في علوم الفلسفة فهو مؤمن بأن السياسة لا تنفصل عن العسكرية. ويجزم بأن الحرب ليست فقط عمل سياسي ولكن أداة سياسية تنفذ بطريقة عسكرية.[5]  وعليه يؤكد أن حجم القوة يجب أن يتلاءم مع الأهداف والطموح السياسي لتأمينها. وهذه خلاصة مهمة في دراسات حجم وتنظيم القوة.
على عكس مفاهيم كلاوزفيتز ، فإن أنطوان هنري جوميني السويسري الفرنسي ، الذي حارب في صفوف نابليون ، ضد فكرة إبادة جيش العدو ومع فكرة إحتلال الأرض والبقاء على قوة العدو العسكرية. فهو يعتقد أن الحرب ليست علم وإنما فن. ويركز على العمليات العسكرية وضد تدخل السياسيين في سير المعارك. ويعتقد أن القوة المقاتلة يجب أن تكون صغيرة لتقليل الخسائر.[6] أيضا ، تدّرس نظرياته في كليات القيادة والأركان.
إستمر تطور الاستراتيجية العسكرية خلال العصر الصناعي ليصبح علماً وفناً. فظهر مصطلح الحرب الشاملة للموارد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والذي ركز على استراتيجية الأرض المحروقة وتدمير البنية التحتية. ومع التقدم الصناعي واستخدام التقنية الحديثة في القتال والتدريب الجيد أصبحت الخدمة العسكرية الإلزامية موضوع جدال ويتوقع لها أن تختفي في المستقبل. ومع اختراع المحرك البخاري أصبح التنقل على السكك الحديدية أسرع وسهل من خفة الحركة والمرونة وبالمقابل أصبح من ضمن تكتيكات الخصم تعطيل خطوط السكك الحديدية. كما استخدمت البوارج الحربية محركات بخارية للتنقل على الماء أو القتال البحري. ومع اختراع التلغراف أصبح الإتصال أسرع بين الخطوط وقياداتها الخلفية. استغل مولتكه الجنرال البروسي السكك الحديدية والطرق للمناورة كما استغل التلغراف لقيادة الجيوش الكبيرة. وغير الاوامر الى توجيهات لمرؤوسيه من القيادات. لقد كان مولتكة مقتنعاً بأن الخطط مهما كانت جيدة التحضير فإنها لن تكون مضمونة بعد أول مواجهة مع الخصم.[7] 
ومع بداية الحرب العالمية الأولى دخل مفهوم الاستراتيجية الدفاعية بعد صناعة الأسلحة الرشاشة وأصبح من الصعب القيام بالمناورات الاستراتيجية فإعتمدت الجيوش حروب الاستنزاف. كان المهاجم يحتاج الى عشرة مقاتلين لكل مدافع ليتمكن من إختراق عمق الدفاع في عدم وجود المدفعية. كما ظهرت حرب العصابات التي إستخدمها العرب ضد العثمانيين. إعتماد البريطانيون على القوة البحرية لم يكن كافياً فقاموا بتطوير القوة البرية لأعداد لم يسبقها مثيل وإزدهرت الصناعة العسكرية وجودة ذخائرها. فتم تصنيع الدبابة البدائية والعربات المدولبة والمجنزرة والغازات الكيماوية والهاتف. استخدم البريطانيون استراتيجية الحصار البحري واستخدم الألمان حرب الغواصات. وعندما إتحدت الدول لتحارب أعدائها ظهرت مشكلة القيادة الموحدة.
خلال الحرب العالمية الأولى لم تكن الدبابة سيدة الموقف رغم التنبؤ بأنها ستكون الحاسمة في الحروب لأن صناعتها كانت فاشلة فقد كانت ثقيلة وبطيئة الحركة تعرض الجنود للخطر ولم يكن من بداخلها احسن حال فالدخان خانق وقيادتها متعبة. ولكن بعد الحرب العالمية الأولى بدأت الإستراتيجيات العسكرية تفكر في تطوير وتوظيف الطائرة والدبابة بطريقة أفضل. يقول الجنرال الإيطالي جوليو دوهيت صاحب "نظرية القوة الجوية" أن حروب المستقبل ستكسب من الجو وستكون طبيعتها هجومية وستبقى القوات الأرضية في وضع دفاعي.[8] ويحدد أن تهاجم القوات الجوية في عمق أراضيه ومنشآته الصناعية ووسائل إتصالاته. وبدأ التفكير في حاملات الطائرات. في تلك المرحلة كانت الولايات المتحدة وبريطانيا ترى إستخدام حاملات الطائرات في استراتيجياتها الدفاعية بينما كانت اليابان تطور حاملات طائراتها لأغراض هجومية. وتطورت الدبابة البريطانية في عهد اللواء جون فريدريك فولرالبريطاني التي أثبتت قوة نيرانها وسرعة حركتها وحمايتها الذاتية.
إرتكبت ألمانيا أخطاءاً سياسية قادتها للحرب العالمية الثانية. لقد كانت آمالها ان تكتسح فرنسا وروسيا ولم تتوقع ان تتحالف بريطانيا مع فرنسا عدوتها اللدود. ثم توقعت ان تفاوض بريطانيا ولكن تشرشل لم يستسلم. لم تكن ألمانيا على مستوى القوة البحرية البريطانية ولم تجهز قواتها لحروب عبر البحار. حاولت ألمانيا عندها ان تخنق الإقتصاد البريطاني في معركة الأطلنطي التي استمرت من 1939 وحتى هزيمة ألمانيا. وفي خطأ أخير حاولت غزو روسيا عام 1941م في حرب توقعت ان تنتصر فيها بسرعة ولم تستطع وتحولت الاستراتيجية الألمانية الى استراتيجية دفاعية بعد أن تكتلت القوات الأمريكية في أفريقيا وبريطانيا.
شهدت الحرب العالمية الثانية عدة إستراتيجيات عسكرية منها:
1.     الحرب الخاطفة التي استخدمتها ألمانيا للتوغل في أراضي العدو والقضاء عليه.
2.     حملة القصف الجوي الاستراتيجية على ألمانيا.
3.     كذلك محاولة بريطانيا قتال الأطراف الأضعف مثل إيطاليا واليونان والبلقان لإيقاف الدعم عن ألمانيا.
4.     غزو القوات الأمريكية وحلفاؤها نورماندي البرمائي المسنود جوياً لمواجهة ألمانيا مباشرة. استخدم القفز بالمظلات خلف خطوط العدو وحرب الغواصات والسفن والانزال البرمائي للقوات البرية والمدفعية المتنقلة.
5.     عملية باربروسا المباغتة التى غزت فيها المانيا روسيا في اكبر جبهة في تاريخ الحروب بلغت 2900 كم. تكبد الروس أكثر من 3 ملايين قتيل بسبب الحرب وسوء المعاملة الألمانية وبسبب فشلهم التكتيكي الذي ضخم قوتهم ومعداتهم خصوصا الدبابات الرديئة وافتقار جنودهم الى التدريب الجيد. نجاح روسيا في عملية بارباروسا لاحقاً كان بفضل مصدر مقاتلين لا ينضب تم تقديره بعشرة ملايين مجند وبفضل سوء الأحوال الجوية التي تسببت في تقطع الامدادات.
6.     نقل روسيا مصانعها الحربية الى منطقة الأورال بعيداً عن متناول الألمان
7.     حاولت اليابان ان تحطم الاسطول الامريكي في بيرل هاربر حتى لا يتمكن من حماية نفط جنوب شرق آسيا والذي تطمح في تأمينه لإقتصادها. كان الخطأ سياسي وعسكري لآنه عجل بدخول الولايات المتحدة الحرب.
8.     استخدمت القوات الامريكية "قفزات الضفدع" تتنقل بين الجزر تقطع الامدادات وتتحصن في الجزر ضعيفة الحماية. حتى تم القضاء على تحصينات اليابانيين في الجزر
بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت إستراتيجية الإحتواء في الحرب الباردة قادتها الولايات المتحدة للحد من إنتشار الشيوعية في شرق أوروبا والصين وكوريا وافريقيا وفيتنام وتشكلت منظمة حلف شمال الاطلسي "حلف الناتو". في هذه الفترة سادت مفاهيم الردع بالتهديد في استخدام السلاح النووي. كانت الحروب بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي غير مباشرة وتتم في مختلف أنحاء العالم بالوكالة في صراعات محلية بين دول أو جماعات من نفس الدولة. تم التركيز في هذه الفترة مفهوم التجسس الصناعي وتقييم المعلومات الإستخباراتية. ركزت الولايات المتحدة على إضعاف السوفييت إقتصاديا للتغلب عليهم. بعد الحرب الباردة ، إعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على التكنولوجيا المتقدمة للحد من الاصابات وزيادة الكفاءة القتالية ومنذ بداية التسعينات من القرن الماضي قلت الخسائر الناجمة عن الحروب بشكل كبير. وظهر مفهوم الحروب غير التقليدية ومنها حرب العصابات التي تشنه "القاعدة". ثم مسرح العمليات العسكري الذي ربط المعلومات البرية والبحرية والجوية والاستخباراتية الخاصة بقوات الدولة وحلفاؤها وكذلك المعلومات الخاصة بقوات أعدائها لتصب في مراكز القيادة.
نظريات علم النفس والإجتماع في أسباب الحرب
يقول جوميني أن الحكومة تعلن الحرب لإسترداد حقوقها أو الدفاع عنها والحفاظ على مصالح الدولة مثل التجارة والصناعة والزراعة : وتساند الدول المجاورة بغرض توازن القوى والوفاء بإلتزاماتها وتعهداتها الهجومية والدفاعية لحلفائها، وتنشر النظريات الدينية والسياسية، او تسحقها او تدافع عنها، وتوسع تأثيرها بالاستيلاء على الأراضي او تنتقم لإنتهاك شرف.[9] ولكن هناك أيضا حروب قادها ضباط لتحقيق أهدافهم الشخصية.
قسم جوميني الحرب الى عدة انواع وكل صنف يتطلب طريقة مختلفة للقيام به:
1.     الحرب الهجومية: غزو بلد آخر لإسترداد الحقوق وهي حرب عادلة
2.     حروب سياسيا دفاعية ولكن هجومية بالنظرة العسكرية مثل الحروب الاستباقية وهي الحرب التي يتوقع من العدو الهجوم فيقوم الجيش بهجوم إستباقي.
3.     الحروب النفعية للإستيلاء على شيء من العدو
4.     حروب مع او بدون الحلفاء
5.     حروب التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الجارة
6.     الحروب العنيفة مثل حروب جنكيز خان
7.     حروب أيديولوجية مثل الشيوعية والنازية
8.     حروب وطنية مثل مقاومة الاستعمار
9.     حروب أهلية وحروب دينية
يبدو أن الحرب جزء من النزعة البشرية. هذه الفرضية ناقشها العلماء النفسيين والباحثين كثيراً وبعضهم توصل الى خلاصات بأنها وراثية وآخرين زعموا بأنها إرتجالية نتيجة لردة فعل. سنعرض بعضاً من نظريات أسباب الحرب من أجل توضيحها ومساعدة المحلل الإستراتيجي في توسعة الأفق من هذا الجانب.

نظرية الذكر المحارب: في كتابه "الذكور الشياطين: القرود وبدء العنف البشري" ، وضح ديل بيترسون وريتشارد رانغهام أن الذكور أعنف من الإناث في سعيهم للحصول على المرأة والمصادر الأخرى. وأن الرجل بطبيعته قادر على إنشاء التحالفات مع مجموعته للصراع ضد مجموعات أخرى ولديه فطرة عدوانية تجاه من يعتبرهم دخلاء. وعند نجاح هذه الصراعات فإنها تتأصل جينياً وتتوارث. فالنزعة الفطرية العنيفة لدى الرجل تساعده أن يكون أكثر وجاهة عند التغلب على خصمه وهي نفس النزعة لدى القرود.[10]
نظرية الحرب المفترسة: أتت بارباره إهرانريخ بنظرية مختلفة لأسباب الحرب لأنها تقول أن فرضية الذكر المحارب غير مكتملة. فهي تعتقد أننا كبشر تطورنا منذ العصور القديمة في حماية أنفسنا من الفرائس الأكثر مهارة وصرنا نعرف كيف نختبئ عنها ولكن بعد أن إستطعنا الحصول على أسلحتنا تمكنا من قتالها واصطيادها وبدأت لدينا مناسك الصيد والتي تطورت الى شعارات لقتال نفس الفصيلة البشرية. وهذا هو السبب الذي يجعل الحرب غير طبيعية للكثير منا وتتطلب التدريب على القتال حتى نستطيع تغيير سلوكنا لمحاربة أعدائنا. [11]
نظرية الصقور والحمام: يوضح كاهنيمان ورينشون أن الصقور تميل الى التدابير العنيفة لحل صراعاتها بينما تركن الحمام للحلول السلمية وغالبا ما تفوز الصقور. وقد أظهرت الأبحاث النفسية أن أغلب الناس يعتقدون أنهم أكثر ذكاء، وأكثر جاذبية، وأكثر موهبة من المتوسط، وهم عادة يبالغون بنجاحهم في المستقبل ويعتقدون ان لديهم القوة الكافية للسيطرة والحصول على أهدافهم. ويفسر ذلك أننا نتوجه للحرب لأننا نعتقد خاظئون أن بإمكاننا كسب المعركة وتحقيق النصر لأننا الأفضل. وهذا إفراط بالثقة بالنفس وسلوك أكثر خطورة.[12] هذه النظرية شبيهة بنظرية روبيكون التي تفيد بأن المجموعة عندما تتعرض للخطر فإنها تعبر حاجز الخوف والذي يقودها الى قرارات غير عقلانية ومجازفات كبيرة.
نظرية التضخم السكاني المالثوسياني: وفقاً لنظرية السكان الخاصة بثوماس مالثيوس فإن الحروب متوقعة عندما تزيد أعداد السكان مقارنة بالمصادر التي أصبحت شحيحة نسبيا والتي لا تتوفر لها. وعندها تنشأ الخلافات والحروب على هذه المصادر أو تتسبب المجاعة والأمراض بإنقاص المعدل السكاني حتى يتوازن هذا المعدل مع المعدل الغذائي.[13]
نظرية تضخم الشباب: تزعم النظرية أن الحروب والعنف نتيجة للتضخم في نسبة الشباب السكاني العاطلين عن العمل ، فهؤلاء سيستدرجون للحرب ويقتلون وتنقص معدلاتهم.[14]
نظرية تفكير المجموعة: في بعض الأزمات تسيطر أفكاراً محددة على المجموعة تسوقهم لتنفيذها رغم كفاءتهم واتزانهم وقدراتهم العقلية بسبب الضغط على المجموعة للموافقة على اجراءات ربما قادتهم الى التهلكة. ويفسر العلماء بأننا عندما نشعر بالتهديد ننقسم الى فئتين الاولى معنا والثانية ضدنا وهو ما حدث في العراق. [15]
نظرية نموذج المساومة: يقول بعض علماء الإجتماع أن الحرب ربما لا تكون نزعة فطرية أو تفاعلية بقدر ما تكون تفاوض متطرف بين فريقين متنازعين ومناورة لتحقيق أهداف سياسية مثل تخصيص الموارد أو العدالة الإجتماعية. يقول دان رايتر أن نموذج المساومة لا يرى الحرب أنها إنهيار للدبلوماسية ولكن مساومة مستمرة كما تكون عليه المفاوضات خلال الحروب وايقافها بعد التوصل الى إتفاق. وهذا النموذج مفيد للعلاقات الدولية لأنه يقترح أن كل حرب عبارة عن عملية تفاوض تؤدي إلى حلول للأطراف المتنازعة.[16]
نظرية إدارة الإرهاب: يخاف البشر من الموت ولكن وجودهم ضمن حضارة أو مجموعة أو قبيلة يضمن لهم إستمرار فصيلتهم وثقافاتهم ويخفف من هذا الخوف. تطرح نظرية ادارة الإرهاب مفهوم أن الهجوم على قوم ما يسبب لهم الخوف من الموت وإندثار معتقداتهم وطقوسهم ، لذلك سيدافع هؤلاء عن أنفسهم وسيتغلبون على حاجز الخوف النفسي.[17]
نظرية النزعة العدوانية: توضح النظرية أن العدوانية غريزة تساعد البشر والحيوانات على البقاء. في الحيوان غريزة تمنعه من قتل حيوان من نفس النوع بعدما يخضع وينهزم الطرف الأضعف. ولكن لدى البشر التدريب والأسلحة والحماس والطائفية كلها تقود في النهاية إلى الحرب. تقترح النظرية أن النزعة العدوانية صفة بشرية بسبب الأدوات المتقدمة التي لديها وتنظيمها الإجتماعي.[18]
نظرية "الحرب نتعلمها أو نفقد تعاليمها" :  اقترحت عالمة الإنسان مارغريت ميد هذه النظرية في بدايات القرن العشرين. تشير هذه النظرية أن الحرب ليست تبعات حتمية لطبيعتنا التنافسية والعدوانية. ولكنه إختراع إجتماعي يمكننا تعلم أن ننساه. وهذه النظرية تترابط مع نظرية النزعة العدوانية والتي تزعم أن المنظومة الإجتماعية هي التي تقود الى الحرب. تناقض هذه النظرية مفاهيم المالثوسية التي تزعم أن الحرب لا مفر منها عندما يتكاثر عدد السكان. وعليه فإننا نستطيع تعلم السلام أيضاً.[19]
 تقودنا هذه النظريات إلى أن المفكر الإستراتيجي أو القائد أو السياسي بإمكانه أن يوظف أفضل الخطط لمعالجة المواقف التي ستواجهه مستقبلاً من أجل تحقيق مصالح دولته. كما أنها تشرح أن أسباب الحرب كثيرة منها محاولة البقاء والإزدهار وحماية العرق وحماية الموارد والعدالة الإجتماعية وغيرها. ومن الوهم الاعتقاد ان الشخص يمكن أن يحدد نتيجة الحرب مسبقا لأن أول إشتباك سيقلب الحالة الى حالة جديدة.
مستويات الإستراتيجية
الأمن هو السبيل إلى الإستقرار من أجل إتاحة تطور وإزدهار المجتمعات الحرة. ولا يعتبر ذلك هدف إنما رؤية يتحتم على الدولة أن تسعى لتحقيقها ضمن أولى أولويات إستراتيجيتها الوطنية. وقد عرّف الأدميرال إكليس الإستراتيجية الوطنية بأنها "التوجيهات الشاملة لجميع عناصر القوة الوطنية لتحقيق أهدافها الوطنية."[20] أما إدارة الدفاع الأمريكية ففصلت عناصر القوة في تعريفها للإستراتيجية الوطنية كالتالي: "فن وعلم تطوير وإستخدام القوى السياسية والإقتصادية والنفسية مع قواتها المسلحة في السلم والحرب لضمان أهدافها الوطنية."[21] إذاً يتحتم على الاستراتيجية الوطنية أن تستخدم جميع عناصر القوة في الدولة.
وبعد هذه المقدمة التي وضحت تطور مفاهيم الاستراتيجية العسكرية وإبداعات القادة في تطويرها وشرح نظريات علم النفس والإجتماع في أسباب الحرب وثم التعرف على أن هناك مستويات متعددة للإستراتيجية نعود الى تعريف الإستراتيجية بغرض الوصول إلى إطار يحدد لنا المستويات المطلوبة من الإستراتيجية والتي تتأثر وتؤثر بالإستراتيجية العسكرية.


تعاريف الاستراتيجية هرمياً
الاستراتيجية العسكرية عبارة عن مفاهيم وأفكار تطبقها التنظيمات العسكرية لتحقيق أهداف إستراتيجية.[22]  وكلمة إستراتيجية مشتقة من اليونانية "إستراتيجوس" وتعني القائد العسكري أو "إستراتيجيا" أي مكتب الجنرال ، أو كما يسميها ماتلوف "فن الجنرالات"[23] و كما يطلق عليها ويلدون "فن ترتيب القوات."[24] أما تعريف كلاوزفيتز فهو "توظيف المعارك لكسب النهاية للحرب."وفي المفهوم الصيني يختلف أب الاستراتيجية العسكرية الشرقية سن تسو عن المفهوم الغربي ليركز على الحروب الغير نظامية وخداع العدو[25].
في القرن السادس وتحديداً في عهد الإمبراطور البيزنطي جستينيان ظهر الفرق بين معنى الإستراتيجية والتكتيك. فالإستراتيجية هي الطرق التي يدافع بها الجنرال عن الأرض ويهزم العدو. والتكتيك جزء أدنى في هرم الإستراتيجية وهو العلم الذي يرتب القوات ويحرك الجيوش بشكل منظم.[26] قبل الثورة الفرنسية (1789-1799) لم يكتب الكثير عن الاستراتيجية والتكتيك وإنما عن "التعليمات العسكرية" لبايسيغور أو فن الحرب لماكيافيلي ولكن ربما كان جوبرت الاول في الكتابة عن المستويات العليا والدنيا للحرب في كتابه "مقالات عامة عن التكتيكات."
ارشدوك تشارلز قائد هابسبرغ وهي الامبراطورية النمساوية والذي واجه تابليون بونابرت عرف الاستراتيجية عام 1806م على انها علم الحرب: تصميم الخطط ثم رسم وتطوير العمليات العسكرية وهي خاصة بالقائد الأعلى. أما التكتيكات فهي فن الحرب وهي مهارات كل قائد يقود عساكر تحت إمرته ويعرف كيفية تنفيذ الخطط الإستراتيجية.[27] وعرف بوفر ان الاستراتيجية هي فن الجدال بين ارادتين متضادتين تستخدمان القوة لفض النزاع.[28]
عارض كارل فون كلاوزويتز ان تكون الحرب علم أو فن وقال بأننا "يمكن أن نشبهها بالتجارة. فهي أيضا صراع مصالح بين البشر وهي أقرب إلى السياسة. فالحرب إذا يمكن إعتبارها تجارة بحجم كبير. وعلاوة عليه فإن السياسة هي رحم ولادة الحرب"[29] ، وعرّف كلاوزويتز الحرب على أنها "إستخدام القوة بطريقة ينصاع عدونا لإرادتنا."
وحدد تعريف لويس إدوارد الاستراتيجية بأنها فن تحديد النقاط الحاسمة لمسرح الحرب والخطوط العامة والطرق التي يجب ان تسلكها الجيوش لتصل.[30] كما قاد تعريف مولتكه إلى تحديد أدق لأنه رأى أن جوهر الإستراتيجية هو في التحضير لإيصال القوات الى المعركة في نفس الوقت.[31] بينما رأى برودي ان الاستراتيجية هي الدليل الذي يوضح كيف نقوم بالعمل وبكفاءة. فنظرية الاستراتيجية هي نظرية تنفيذ العمل.[32]
في مناقشته للعمليات البحرية عام 1894 شرح هنري سبنسر ويلكنسون المؤرخ العسكري البريطاني علاقة السياسة بالاستراتيجية. فالسياسة عمل وطني موجه لغاية. ويجب أن تكون الأهداف المرجوة من هذه الغاية لها قيمة وطنية يقدرها الشعب وإلا لن يقّدم الشعب الدعم اللازم والجهود لتحقيقها. ويجب أن تكون الوسائل مناسبة للغايات.[33] وهذا الإتجاه نراه واضحا في تعريف ليدل هارت بأن "الاستراتيجية هي فن توزيع وتطبيق الوسائل العسكرية لتحقيق الغايات السياسية.[34] وربما كان تعريف ليدل هارت فضفاضا لأننا يمكن أن نطبق هذا التعريف على السياسة الخارجية أيضاً.
وقد قاد التطور الهائل في المعرفة العسكرية الى تعاريف بدأت تتبلور حول الشمولية فقال الجنرال أندريه بوفر ان الحرب شاملة لمجالات وأعمال سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية وغيرها.[35]
ومع ادخال مفهوم الاستراتيجية العظيمة في الحرب العالمية الثانية ظهرت تنوعات في التعريف. فرئاسة الاركان الامريكية المشتركة عرفت الاستراتيجية عام 1964 على أنها تطوير واستخدام القوة السياسية والاقتصادية والمعنوية والعسكرية كما تتطلبها الحاجة خلال السلم او الحرب من اجل رفع احتمالات تحقيق النصر وخفض فرص الهزيمة.[36]
وعرف العالم السياسي البريطاني روبرت نيلد عام 1990 الاستراتيجية بمفهوم أوسع على أنها السعي خلف اهداف سياسية بإستخدام الوسائل العسكرية. وعند رسم الاستراتيجية فإن أول خطوة هي اخذ قرار حول الهدف السياسي. بدون هدف سياسي فإن الحرب تدمير بدون عقل وامتلاك قوة عسكرية وقت السلم هدر غير عقلاني. ولكن عند تحديد الهدف السياسي يجب إختيار الاحتياجات والوسائل العسكرية المطلوبة وتصميمها لتلائم هذه الاهداف.[37] ويؤكد واغنر ما أضافه روبرت نيلد فيقول أنه لا يوجد قائد عسكري ناجح ما لم يعرف طبيعة الحروب ولماذا بدأت الحرب وما هي الطرق اللازمة لتطبيقها ليس للنصر انما لتحقيق الأهداف التي من أجلها رفع السلاح؟[38] وفي كتابه "دليل الضباط" يتوص جادل  روهل ليننستيرن الى نفس النتيجة بأن كل حرب لها سبب وغاية والتي ستحدد اتجاه كل نشاط. كل نشاط عملياتي له غاية. الحرب ككل لها هدف سياسي.[39]
يقول روديارد كيبلنغ "أحتفظ بستة رجال يخدموني وتعلمت منهم كل ما عرفت. وأسماؤهم ماذا ولماذا ومتى وكيف وأين ومن.[40] فالغاية يمكن تحديدها بالأسئلة ماذا و لماذا. والطريقة يمكن تحديدها بالأسئلة كيف ومتى وأين. أما الوسيلة فيمكن تحديدها بالسؤال من.
تطور تعريف الإستراتيجية حتى وصل لورنس فريدمان لخلاصة أنها تختص بالعلاقة بين الغايات السياسية والوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية. وهي فن تكوين القوة.[41] كما أنها فن التحكم واستغلال المصادر الوطنية. وأضاف إدوارد إيرل أن الاستراتيجية العظمى هي في قمة الهرم والتي تربط السياسة الوطنية وتسليحها.[42]
وتعتبر الاستراتيجية اليوم عن فرع من إدارة الأعمال. وهو ما يعرفها جونسون وزملاؤه بأنها التوجه والنطاق المتاح للمنظومة على المدى الطويل التي تحقق مزايا من تغيير بيئة العمل عن طريق ترتيب وتشكيل الموارد والمنافسة لتحقيق أهداف أصحاب المصلحة.[43]
إن التغييرات السريعة الاقتصادية والسياسية والديموغرافية والاجتماعية والتكنولوجية والعلمية فرضت تحديات لا مثيل لها وقادت الى هذا التطور في المفهوم الإستراتيجي والذي يمكننا الآن أن نرى بوضوح أن الإستراتيجية علم فضفاض يمكن تطبيقه في مستويات متعددة ولكن لغاية هذه الدراسة نكتفي بهذه التعريفات التي أوصلتنا إلى تحقيق غايتنا وهي تكوين مفهوم للإستراتيجية العسكرية. الاستراتيجية تعلمنا كيف نشن الحرب. او كيف نحقق الأهداف السياسية باستخدام الوسيلة العسكرية. وربما لم تكن الاستراتيجية عسكرية فربما كانت الاستراتيجية العظيمة التي لا تستخدم فقط القوة العسكرية انما مصادر القوة الشاملة في الدولة ككل. فهي الوصلة بين الفعل والتأثير وبين الوسيلة والأهداف. فهي فكرة. وهي خطة عمل لتحقيق غاية ما. ولا يمكن أن نشرع بوضع إستراتيجية عسكرية دون وجود الاستراتيجية الأمنية القومية أو الوطنية. كما لا يمكننا رسم إستراتيجية أمنية في غياب إستراتيجية وطنية.
إذا ، بادئ ذي بدء ، علينا تطوير خطط واستراتيجيات وطنية محددة لتحقيق أهداف وطنية والموافقة عليها. ومواضيع الاستراتيجية الوطنية متوسعة تشمل الزراعة والقوات المسلحة والتجارة والاقتصاد ومنع الجريمة والبيئة والتعليم والطاقة والمالية والعمليات الحكومية والصحة والاسكان والمعلومات والعلاقات الدولية والعدل والرعاية الاجتماعية والمواصلات. أما الإستراتيجية الأمنية الوطنية فهي إستراتيجيات وخطط تطبق مجموعة من عناصر القوة الوطنية خلال السلم أو الحرب مثل القوة الدبلوماسية والإقتصادية والمعنوية والتقنية وذلك لتحقيق أهداف الأمن القومي ومنها السلام والأمن والإستقرار والإزدهار والبقاء والدفاع عن الوطن. وعندها يمكن تطوير الإستراتيجية العسكرية التي تعني بتطوير استراتيجيات توظف القوات المسلحة لتحقيق الأهداف العسكرية الوطنية والتي يشترك بها المنظرون وأصحاب القرار.


المراجع


[1]      سورة الأنفال الآية 60

[2]      سورة الأنفال الآية 61

[3]      سورة البقرة الآية 208

[4]     May, Timothy. The Mongol Art of War: Chinggis Khan and the Mongol Military System. Barnsley, UK: Pen & Sword, 2007.  pp. 115.

[5]      On War, Book I, Chapter 1, 24., Carl von Clausewitz, translated by J.J. Graham, p. 18.

[6]      Mertsalov, A.N. "Jomini versus Clausewitz", pages 11–19 from Russia War, Peace and Diplomacy edited by Mark and Ljubica Erickson, London: Weidenfeld & Nicolson, 2004, page 13.

[7]      Originally in Moltke, Helmuth, Graf von, Militarische Werke. vol. 2, part 2., pp. 33-40. Found in Hughes, Daniel J. (ed.) Moltke on the Art of War: selected writings. (1993). Presidio Press: New York, New York.ISBN 0-89141-575-0. p. 45-47.

[8]      Douhet, Giulio. The Command of the Air (Editors' Introduction), Coward McCann (1942), Office of Air Force History 1983 reprint, 1993 new imprint by Air Force History and Museums Program. Washington D.C., 1998

[9]          Jomini, Antoine Henry Baron 1837: The Art of War. Philadelphia: J.B. Lippincott. P. 14

[10]      Dale Peterson , Richard Wrangham. Demonic Males: Apes and the Origins of Human Violence. New York, Houghton Mifflin Company. 1996.

[11]      Barbara Ehrenreich. Blood Rites: Origins and History of the Passions of War. New York, Henry Holt and Company Publishers. 1997.

[12]      Daniel Kahneman , Jonathan Renshon. Why Hawks Win. Foreign Policy. December 27, 2006

[13]      Steven Le Blanc, Katherine E. Register. Constant Battles: Why We Fight. New York, St. Martin's Press. 2003.

[14]     Lionel Beehner. The Effects of ‘Youth Bulge’ on Civil Conflicts. Council on Foreign Relations. April 27, 2007

[15]      Irving, Janis. Groupthink: Psychological Studies of Policy Decisions and Fiascoes. Boston, Wadsworth Cengage Learning. 1982.

[16]      Dan Reiter. Exploring the Bargaining Model of War. ASPANA, March 2003 Vol. 1/No. 1

[17]      Vail, Kenneth and Motyl, Matt and Abdollahi, Abdolhossein and Pyszczynski, Tom, Dying to Live: Terrorism, War, and Defending One's Way of Life (February 18, 2011). INTERDISCIPLINARY ANALYSES OF TERRORISM AND POLITICAL AGGRESSION, pp. 49-70, D. Antonius, A. D. Brown, T. K. Walters, J. M. Ramirez, S. J. Sinclair, eds., Cambridge, 2010. Available at SSRN: http://ssrn.com/abstract=1763549

[18]      Konrad Lorenz. On Aggression. Orlando, Florida: Harcourt Brace & Company. 1966

[19]      Mead, Margaret. "Warfare is Only an Invention -- Not a Biological Necessity." InThe Dolphin Reader. 2nd edition. Ed. Douglas Hunt. Boston: Houghton Mifflin Company, 1990. 415-421.

[20]      Henry E. Eccles, Military Power in a Free Society, Newport, RI: Naval War College Press, 1979, p. 70.


[21]      Joint Chiefs of Staff (JCS) Pub 1‑02, Department of Defense Dictionary of Military and Associated Terms, Washington, DC: USGPO, December 1, 1989, p.244.


[22]     Gartner, Scott Sigmund, Strategic Assessment in War, Yale University Press, 1999. pp 163.

[23]     Matloff, Maurice, (ed.), American Military History: 1775-1902, volume 1, Combined Books, 1996. pp11.

[24]      Wilden, Anthony, Man and Woman, War and Peace: The Strategist's Companion, Routledge, 1987. Pp235.

[25]    Matti Nojonen. The Art of Deception. Strategy lessons from Ancient China. Gaudeamus, Finland. Helsinki 2009.

[26]        Anon. 6th century: Peri Strategias, ed. And trans, George Dennis: Three Byzantine Military Treaties. Washington, D.C.: Dumbarton Oaks, 1985

[27]        Grundsatze der Strategie erlautert durch die Darstellung des Feldzugs von 1796 in Deutschland, 3 vol. Vienna: Anton Strauss. 1814, vii, 3

[28]        Andre beaufre an introduction to strategy. New York: Praeger, 1963, p.22

[29]        On War 1832/1976 I: 1, 24

[30]        Taillemite, Etienne 1999: Deux pre-Mahaniens francaise: Bouet-Willaumez et Penoat, in Herve Coutau-Begarie (ed): L' Evolution de la pensee navale, vol. VII. Paris: Economica:50

[31]        Schlichting, General Sigimsmund von 1897: Taktische und Strategische Grundsatze der Gegenwart. Ernst Siegfried Mittler and Son; 3rd edn, Berlin: Ernst Siegfried Mittler and Son, 1898:II:11

[32]        Brodie, Bernard 1973: War and Politics. New York: Mcmillan. P. 452
[33]        Wilkinson, Henry Spenser 1894:Command of the Sea and Brain of the Navy. Westminister and London: Archibald Constable. p21

[34]        Liddell Hart 1944: Thoughts on War. London: Faber and Faber. P.229

[35]        Baufre, Andre 1966: Strategie de l'Action. Paris: A. Colin; trans. R. H. Barry:Strategy of Action. London: Faber and Faber. p19-23


[36]        Luttwak, Edward 1987:Strategy: The Logic of War and Peace. Cambridge, MA: Belknap Press of Harvard University Press. p239-41

[37]        Neild, Robert 1990: An Essay on Strategy as it Affects the Achievement of Peace in a Nuclear Setting. Basingstoke: Macmillan. P.1

[38]        Wagner, August 1809:Grundzuge der reinen Strategie. Amsterdam: Kunstund Industrie-Comptoir. P. viii

[39]        Ruhle, von Lilienstern 1817:  Handbook of Officers. Vol. I Berlin: G. Reimer.

[40]             Kipling, Rudyard. The Elephant Child. Just So Stories.
[41]        Freedman, Lawrence 2008: Strategic Studies and the Problem of Power. In Thomas Mahnken and Joseph Maiolo (eds): Strategic Studies: A Reader. Abingdon: Routledge: p. 32

[42]        Earle, Edward 1943:Makers of Modern Strategy from Machiavelli to Hitler. Princeton University Press. P. viii

[43]        Johnson, Gerry, Kevan Scholes and Richard Wittington 2005: Exploring Corporate Strategy. 2nd ed. Harlow: Pearson Education. P. 9