د. راشد علي السعدي
يعز علينا ونتألم
عندما نشاهد تدهور حالة الخلاف الخليجي ووصولها إلى حالة شقاق تصدعت معه أركان
مجتمعنا الخليجي الذي "تعاون" بالأمس ولكن إنهار صرحه اليوم. ويؤلمنا أكثر أن نكتشف العلاقة الهشة بين قادة دول مجلس التعاون والتواصل "الغير
خليجي" بينهم وغياب صراحة الحديث. من لم يأسف ويتحسر ويندى جبينه للتراشق
اللاأخلاقي الذي وصل إلى الشعوب الخليجية؟ من تخيل أن تصل شرور الإنتقام إلى حصار
شعب خليجي من قبل أشقاؤه في شهر فضيل ، وحرمانه من التواصل مع أرحامه وذويه ، وخصوصا
في عيد الفطر؟
لنرجع للماضي برهةً
نكتشف العلاقات الخليجية قبل قرنين من الزمان وكيف كانت. لقد عصفت بشعوب المنطقة
حضارات مختلفة متنازعة فارسية وعثمانية وبريطانية لم تكل ولم تهدأ في مناوشاتها
ومشاكلها وحروبها وتحالفاتها وتغيير ولاءاتها. لقد تعرضت دول الخليج للكثير من
التجاذبات السياسية والغزوات وكان يرجع السبب دائماً إلى غياب الوحدة بين القبائل.
ولكن ما إن توحدت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإلتفت
قبائل دولة قطر حول مؤسسها ، حتى أصبحت قوة وتدرجت بالإستقرار. وبعد إكتشاف النفط
، تسارعت عجلة التنمية وأحدثت تطوراً هائلاً وصلت إلى مصاف الدول المتقدمة في الإقتصاد
والبناء والتسليح ونعمت بالإستقرار لعقود من الزمان . لم يتواصل تكاملها أكثر
فتوقف عند "لكم دينكم ولي دين". لم تتوحد أنظمتها السياسية والإقتصادية
والإجتماعية. وتنافس الأخوة الأعداء وإستعانوا بالمستعمر الطامع. وها هي تحالفاتها
تتفكك من جديد.
ربما كانت الصورة
القاتمة أعلاه توحي للتشاؤم ولكنها لن تكون كذلك غداً. ينبع التشاؤم من صراع
الأخوة وعدم قدرتهم في الوقت الراهن على التغير بسرعة للوصول إلى مرحلة التواصل
الصريح والمكاشفة والموضوعية في الطرح البناء وتقبل النقد. بالتأكيد دول الخليج لن
تتضعضع وإن إستمرت الخلافات أعواماً ، لأن التاريخ يعلمنا أن شعب الخليج لديه عمق ثقافي
موحد يستحيل أن تتغلغل الخلافات خلال طيات تكوينه الدينية والثقافية المتعددة.
أحاول في هذه
الورقة أن أقدم موضوعاً لرأب التصدع الخليجي وهو موضوع غاية في الأهمية يتطلب
عناية في القراءة والتحليل وسأحاول أن أتجنب الخوض فيما لا أعلمه من خبايا الأمور
بين القادة الخليجيين. لذا ، سأطرح خطوات للمصالحة ، من منظور وصفي وتحليلي ، تجنبنا
تداعيات كبيرة وتختصر علينا الوقت. وبكل بساطة فإن الموضوع هو موضوع "إدارة
صراع". ولقد كتبت عن إدارة الصراع في ورقة سابقة (هنا). وما يزيد على ما ذكرت
في الورقة السابقة هو طرح خطوات إجرائية تقوم بها دول الصراع لتفادي تداعياته وحل
المشاكل العالقة والنظر للمستقبل.
تجارب الدول
كانت خصومة فرنسا
وألمانيا من الخصومات التاريخية التي خاضت ثلاث حروب كارثية في الفترة بين 1870م و
1945م. ومع ذلك، في عهد ما بعد الحرب، تطور صراعها وعدائها بشكل كبير إلى شراكة وتعاون
متبادلين. وخلافا للحالة الفرنسية الألمانية، لا تزال العلاقات بين اليابان وجمهورية
كوريا متقلبة بسبب انعدام الثقة والعداوة كامنة بينهما نابعة من مخاوف الأمن والاقتصاد.
ومن دمشق إلى رواندا وجنوب أفريقيا، تعلمنا درسا صعباً أنه في حالات الصراع ، يجب أن
توضع المصالحة في الصدارة عندما نسعى لتحقيق العدالة.
وتكمن صعوبة
التوافق في مدى صعوبة العثور على نقطة البداية للمصالحة والتسامح عندما يكون سبب العداء
الرئيسي غير مرئي. ولكن إن إستطعنا الكشف عن أسباب العداء ، ربما سنناضل بشكل مؤلم
مع هذه الخلافات ، ولكننا على الأقل نعرف أين نقف عندما تكون مسببات خلافاتنا وعداواتنا
واضحة وعلنية.
أما إن تحول
الصراع إلى عنف إرهابي فقد خرج عن نطاق ممارسات حل النزاعات، مثل منع الصراعات ، وصنع
السلام عن طريق المفاوضات والحوار ، وبناء السلام والتوافق. فالإرهاب شكل من أشكال
العنف الذي يعتقد بعض صناع القرار المهيمنين على سياسات العالم أنه لا يمكن التصدي
له إلا من خلال القانون أو القوة العسكرية ، رغم أن غيرهم من قادة الدول يعتقدون
أن الإرهاب له جذور سياسية وإقتصادية وإجتماعية تحتاج الى مداولة. ونأمل أن لا
نسير على هذا الطريق.
خطوات المصالحة
كبشر ، لنا
علاقات إجتماعية مكثفة تعتمد على علاقات جيدة مع من حولنا. لكن أهدافنا تتعارض
بإستمرار مع أهداف الآخرين. وعندما نسعى لتحقيق أهدافنا نلحق الضرر ببعضنا البعض
إما بكلمات جارحة أو عنف جسدي أو إبتزاز أو غش ، وهلم جرا. وإن كان ذلك على مستوى مجموعات
أو دولة يكون التأثير مضاعفاً ، رغم أننا نحتاج أن نتعايش جنبا الى جنب. فكيف
نستعيد العلاقة الجيدة؟
أولى خطوات
المصالحة هي الكشف عن حقيقة ما يحدث بصراحة. وعندما نستعرض الحقائق والأدلة يتوقع
أن يعترف الجاني بفعلته والضرر الذي تسبب به. وتأتي بعدها خطوة الإعتذار للضحية.
عندها يمكن أن يتسامح الطرفان وتتحق العدالة بشكل ما. ولا تنتهي عند هذا الحد ولكن
يخطط لمنع تكرار ما حدث. ثم تستأنف الجوانب البناءة للعلاقة المفقودة. ومع الوقت
فقط ستبنى الثقة. دعونا نشرحها.
الكشف عن الحقيقة
إن كشف الحقيقة
عن الأضرار قد يكون بسيطا جداً ، أو صعبا جداً ومثير للجدل. هناك حاجة إلى فهم من فعل
هذا ، ولأي أسباب ، مع النوايا. في حالات بسيطة ، يكون الضرر الناجم عرضي ، وليس مقصودا
، وهو كل ما يتطلب معرفته لتحقيق المصالحة. وفي الحالات المعقدة، يمكن تبيانها
بالتفصيل المتسلسل ، مع مراعاة تأثير كل حدث وتوضيح السلوك الضار. يجب تجنب"
لعبة اللوم. "لعبة اللوم" تفترض أن المسؤولية عن الضرر تقع تماما على طرف
واحد ، وسوف يرى الطرف الآخر الوضع في الاتجاه المعاكس. ومن المفيد أن يوضع المتنازعين
على كل جانب من جوانب الحقيقة وتبدأ محاولة تسجيل الروايات المتضاربة بين الجانبين
وسيكون من الممكن في نهاية المطاف أن يُكتب تاريخ موحد للنزاع.
الإعتراف
يجب أن يكون هناك
اعتراف مسؤول وصادق من الطرف الجاني للضحية عن الضرر الذي تسبب به ، أو ساهم في
الأسباب التي قادت إليه. ويجب أن يتضمن الإقرار أكثر من الحقائق الموضوعية للضرر، ليشمل
أيضا المعنى العاطفي للضرر. وهذا الأمر غاية في الأهمية للضحية لأنه يعكس حقيقة
معاناته، وحقيقة أن الآن هناك شخص ما يتحمل المسؤولية عن ذلك. إكتشف الأطباء أن
الكثير من القضايا القانونية المرفوعة ضدهم في المحاكم كانت بسبب الإهمال والأخطاء
، لأنهم لم يعترفوا عن الخطأ ، وبسبب نتيجة المعاناة التي سببها هذا الخطأ ، أو
الإهمال لهم ولأقربائهم ، وهو أكثر أهمية بالنسبة لهم من التعويض المالي.
الإعتذار
يجب أن يكون هناك
اعتذار صادق من الجاني للضحية عن الضرر الذي لحق به. يجب أن تحتوي على المعاني التالية:
"أنا أعتذر عما فعلته. وأتمنى لو لم يحدث ،
ولم أتمنى يوماً أن تعاني من هذا الضرر. وإن شاء الله لن يحدث ذلك أبداً".
في اعتذار الجاني
بهذه الصيغة فإنه يقر أنه تجاوز معايير السلوك البشري وها هو يعيدها ثانية. ويعترف
بالدَين الأخلاقي للضحية. وهنا بداية بناء الثقة. هذا الحِمل ليس صغيرا ويتطلب
شعوراً صادقا بحل الخلاف وفتح صفحة تعاون وشراكة جديدة مبنية على القيم والمعايير
الأخلاقية للعلاقات البشرية. أما من جانب الضحية ، فيمكنه قبول الإعتذار أو رفضه. ومن
المرجح أن يكون الرفض إن بدى أن الاعتذار غير صادق أو يتضمن اعترافا غير كاف بالضرر.
التسامح
غالبا ما يتبع الاعتذار،
أو يعني ضمنا، طلب التسامح. والتسامح أو الغفران عملية داخلية معقدة للضحية ، تنطوي
على الانتقال من الغضب والاستياء ، والاعتقاد بأن الدَين الأخلاقي مستحق من الجاني،
والرغبة في الانتقام ، إلى وضع تخفيف الغضب وإنهاؤه ، وإلغاء الديون ، ونبذ الانتقام
، والمضي قدما في العلاقة ، وإسقاط أي إشارة إلى الأخطاء التي ارتكبت سابقا. فالعديد
من الذين يمرون بهذه العملية يختبرونها على أنها تحرر بمعنى التخلص من أعباء الغضب
أو الاستياء أو الأوهام الانتقامية. وفي حالات الضرر الخطيرة، فإن وصول الضحية إلى
حالة الغفران يفترِض أن الضرر النشط قد انتهى وقد يتطلب تصورا بأن بعض العدالة قد تمت.
ننتقل الآن إلى هذا الموضوع الصعب.
العدالة
مفاهيم العدالة
هي أساسية جدا لأدائنا الأخلاقي ولكن ما هي العدالة؟ هل هي التوزيع العادل للأشياء
الجيدة والسيئة؟ هل تعتبر شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ مفاهيم حقوق الإنسان العالمية
تتحدى هذه المعتقدات. وتقول لا ينبغي توزيع "الأمور الجيدة" فحسب ، بل ينبغي
أيضا توزيع "الأمور السيئة" على نحو عادل ، مثل الضرائب في المجتمعات ، والأعمال
المنزلية في بيت الأسرة. في العلاقات الشخصية ، يبدو أن هناك فكرة تقريبية عن المعاملة
بالمثل. أنت تدعوني لتناول العشاء ، سأدعوك يوماً ما. كنت تقترض المال مني ، إذاً لدي
الحق أن أطلب منك قرض في المستقبل. في هذه "السيئات" الخطيرة التي ننظر فيها
هنا ، عندما يلحق الضرر لطرف واحد على حساب الآخر، نميل إلى الشعور بضرورة أن يكون
هناك بعض التوازن: يجب أن يعاني الجاني بعضاً من الأمور السيئة. لا ينبغي له أن
يتملص منها ويفلت من العقاب. وعقابه يأخذ شكل الانتقام الذي يعتبر إيذاءاً متعمداً
من الضرر الذي تلقاه الجاني.
يشير "جوفييه"
، مؤلف كتاب التسامح والإنتقام ، إلى مشكلة أخلاقية أساسية جدا مع الانتقام. استنادا
إلى أخلاقيات احترام الأشخاص وعدم استخدام الأشخاص كأدوات لرضانا، يصبح الانتقام مرفوضا.
إنه الضرر المتعمد لتحقيق الرضا الشخصي الذي يزرع الشر في أنفسنا. عندها ، يصبح
المنتقم هو الجاني. أما فيما يتعلق بحجة الردع - فهناك شيء منافٍ للعقل حولها. فمن
المرجح أن تطبق ثقافة الانتقام في كلا الاتجاهين. ويبدو أن فعل الانتقام قد يثير انتقاما
آخر ، إلا إذا كان التفاضل في السلطة يجعل ذلك خطرا للغاية على الطرف الآخر. في هذه
الحالة ، سيكبت الطرف الأضعف مسألة الاستياء التي تحرقه كمداً وسينتظر ، وربما إنتظر
لقرون ، في انتظار تغير الظروف. وإذا وصلنا لهذه الحالة فقد وصلنا لحالة تدميرية
عميقة. وسيُقتل الأبرياء، ولن تعالج جذور المشكلة أبدا ، وسينخرط الضحية بعمليات
الإنتقام القادمة ، والتي تليها. وسيعيش آخر المنتقمين خوفا وتحسباً من أي هجوم. ولا
يمكن تحقيق المصالحة. حدث هذا مع العائلات الألبانية منذ بضع سنوات. اقترح عليهم "يوهان
غالتونغ" بنجاح أن تنضم العائلات المتقاتلة ضد عدو مشترك وهو نظام الخلافات الدموية
نفسه.
التخطيط لمنع التكرار
وإذا تم تقديم الإعتذار
، يكون الوعد بعدم التكرار صريح أو ضمني. ولكن ، هل يكفي هذا للضحية التي تعرضت لأذى
خطير؟ قد يكون الوعد غير صادق ، ويمكن أن يُقدَم بشكل جيد بدون خطط جادة لتطبيقه ،
وربما كان هناك إعتذار بدون فهم كاف للعوامل التي تسببت بوقوع الضرر في المقام الأول.
ويحق للضحية أن يقرر عدم المخاطرة بالتكرار عندما يشعر بأن المحاولات قد وصلت إلى الحد الذي
لا يمكن التصالح مع علاقة غير مرغوب فيها.
في المقابل ، يمكن
أن تحمي الإعتذار برسائل المصالحة ، وبدء مشاريع الاستثمار التي تشير إلى العدالة.
وسيكون تعليم السلام والمصالحة في المدارس إسهاما بناءً. وقد تكون إشارات التقييم الإيجابي
والإطراء للعناصر السكانية المتنوعة مفيدة. وقد يلزم التدقيق في جوانب مؤسسات
الدولة للتأكد من عدم مساهمتها في العنف، وتتخذ التدابير لتنقيحها.
استئناف الجوانب البناءة للعلاقة
ربما يكون استئناف
تبادل السلع والخدمات هو أكثر الطرق وضوحا في التعبير عن الترابط الأول في علاقات الصلح.
يذكر "جالتونج" ، في برنامجه التدريبي " تحول الصراع بالوسائل السلمية " ، إمكانية القيام بعمل
إعادة الاعمار المشترك ، والحداد المشترك للخسائر ، وحل النزاعات المشتركة ، من أجل
تعزيز المصالحة.
إعادة بناء الثقة مع مرور الوقت
يتم إعادة بناء
الثقة المحطمة من خلال التعامل مع سلوك حميد وجدير بالثقة مع مرور الوقت. وتستثنى أعمال
الكرم الزائد أو التضحية وأي مبادرات تشير إلى احترام وتقدير ، فبإمكانها أن تتطور
بسرعة. ويجب الحفاظ على الوعود ؛ يجب أن تكون هناك شفافية في العملية، لا سيما في حالة
انخفاض الثقة. يجب العمل بنوايا صادقة. وتدريجياً ، ستتراكم طبقات الثقة وتتماسك.
الخلاصة
نسأل الله أن
يصلح ما بين الإخوة ويفتح صدورهم لبعضهم البعض. فنحن نثق بالشخصية القيادية
الخليجية التي تستطيع أن تتغلب على كل الخلافات ولديها الإمكانيات والموارد
والإرادة لو جلست جلسة صادقة صريحة. فكل شخص ، حسب علم النفس ، يحب الخير للآخر.
ولكن سوء التفاهم والإتصال والبيئة المحيطة هي البلاء المشيطن. قوتنا في وحدة
كلمتنا ووحدة بلادنا ، ووحدتنا تنبع من قوة إيماننا وتاريخنا وتراثنا. ومع السلام يمكن
أن تستفيد دول الخليج إلى أقصى حد من مواردها ، وتمنح السعادة للجميع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (الأحزاب 70)
المراجع
Galtung, J. (2000) Conflict Transformation by Peaceful
Means, United Nations Disaster Management Training Programme, at: www.transcend.org.
Govier, T. (2002) Forgiveness and Revenge, New York:
Routledge.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق